ماكرون والأمير محمد بن سلمان في اتصال هاتفي «ثالثه» ميقاتي
المبادرة الفرنسية - السعودية ترمي الكرةَ في ملعب لبنان
- ميقاتي: الاتصال مع ماكرون والأمير محمد بن سلمان خطوة مهمّة لعودة العلاقات التاريخية بين لبنان والسعودية
... أي مفعولٍ لتقديم وزير الإعلام جورج قرادحي استقالته «إلى» الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون على «العاصفة» الديبلوماسية التي انفجرت على خط لبنان ودول الخليج العربي وأطلقت مسار قطيعة بدت مفتوحة على المزيد من الإجراءات التي من شأنها قطْع آخِر الخيوط في العلاقة مع «بلاد الأرز»؟
سؤالٌ كبير طغى على المشهد اللبناني أمس، غداة الاستقالة المتأخّرة أكثر من شهر لقرداحي الذي كانت تصريحاته العدائية ضد السعودية والإمارات قوبلت بإعلان الدولتين وكل من الكويت والمنامة «طَفَحَ الكيل»، وسط تظهير الرياض و«بلا قفازات» أن الغضبة على لبنان الرسمي أعمق بكثير من جزئية «خطيئة» وزير الإعلام وأنها ترتبط بـ «هيمنة حزب الله على الحكومة والقرار في (بلاد الأرز) بوصفه وكيلاً لإيران» وبمشاركته في «إعلان الحرب» عليها عبر دعم الحوثيين إلى جانب ملف تهريب المخدرات والمساس باستقرار المملكة وأمن شعبها.
وكما في الاستقالة التي «تبخّرت» معها فجأة كل مفردات «الإذلال والكرامة الوطنية والابتزاز» التي غُلِّف بها الخط الأحمر الذي رُسم وخصوصاً من «حزب الله» حول حصولها قبل أن تُعَلَّب كـ «هدية» لماكرون في جولته الخليجية علّها تكون «مفتاح» النقاش مع السعودية تحديداً في ما خص الأزمة مع لبنان، فإن تَرَقُّبَ «الجواب» على تداعيات هذه الاستقالة وإمكان أن تحتوي الانتكاسة الخطيرة في علاقات بيروت مع الخليج بدا في ذاته أيضاً حمّال أبعادٍ تكرّس أكثر فأكثر إفلات مقوّمات القرار من يد لبنان الرسمي الذي بدا «منتظِراً قرب السمّاعة» رنين هاتف يُبلغه حصيلة مسعى الرئيس الفرنسي ولا سيما في جدة مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان.
وبدت أوساط سياسية في بيروت على قدر كبير من التشكيك في إمكان أن تُحْدِث استقالة قرداحي تعديلاً يُعتدّ به في مسار الأزمة مع الخليج، داعية لانتظار تبلور كل جوانب ما أعلنه ماكرون بعد مغادرته المملكة عن «مبادرة فرنسية - سعودية لمعالجة الأزمة بين الرياض وبيروت»، وتكَشُّف مرتكزات هذه المبادرة وإذا كان نجاحها أم لا بات هو المنطلق لتغيير اتجاه الأزمة مع لبنان، وسط ما بدا أنه «رمي كرة» مشترك في الملعب اللبناني عبّر عنه ما كشفه سيّد الاليزيه في تغريدة عن اتصال هاتفي أجراه وولي العهد السعودي برئيس الحكومة نجيب بميقاتي «وحصلنا خلاله على التزامات»، موضحاً أن المحادثات مع الأمير محمد بن سلمان تناولت «أولوياتنا السياسية: أمن واستقرار المنطقة مع إعطاء اهتمام خاص بلبنان».
ولم تقل دلالة مواقف ماكرون لـ «النهار العربي» إذ صرح أنه تحاور مطولاً مع ولي العهد السعودي وعمل معه حول الملف اللبناني ثم اتصلا معاً بميقاتي وقالا له ان السعودية وفرنسا ستلتزمان معاً العمل لدعم الشعب اللبناني.
وقال ماكرون إن محمد بن سلمان كان واضحاً في قوله انه سيبذل كل جهده لاعادة فتح المجالات الاقتصادية والتجارية مع لبنان، وانه أيضا سيعمل لمساعدة الشعب اللبناني في ما يخص الحاجات الطارئة ان كانت بالنسبة للطاقة أو الحاجات الإنسانية.
وأضاف: «رغبتنا أيضا أن تتمكن الحكومة من الاجتماع و العمل بسرعة والقيام بالإصلاحات المطلوبة».
وأوضح أنه سيتصل (اليوم) بالرئيس اللبناني ميشال عون.
وختم عن لبنان «الرسالة كانت واضحة بين السعودية وفرنسا ما توصلنا اليه معاً وقد أبلغناه معا في اتصالنا للرئيس ميقاتي. والآن سنعمل معاً على تنفيذ هذا البرنامج».
وسأل «النهار العربي» ماكرون اذا كان ولي العهد دعا ميقاتي الى السعودية، فأجاب: «في الوقت الحاضر السعودية أخذت في الاعتبار أمرين، هما استقالة وزير الاعلام اللبناني وتصريحات قوية للرئيس ميقاتي بالنسبة للسعودية. وأعتقد ان هذا اللقاء يمثل إعادة التزام للسعودية في لبنان وعمل وثيق بين فرنسا والسعودية إزاء هذا البلد».
وفي حين اعتبر ميقاتي أن الاتصال مع ماكرون ومحمد بن سلمان «خطوة مهمّة لعودة العلاقات التاريخية بين لبنان والسعودية»، فإن أوساطاً رأت أن من شأن «الامتحان» الجديد والجدّي الذي يرتّبه ما كشفته محادثات ماكرون في السعودية أن يضع لبنان الرسمي أمام محكّ تثبيت إذا كانت استقالة قرداحي مجرّد محاولة لـ «تنفيس» الأزمة أم تعكس إدراكاً لمَخاطر استمرار التسليم بترْك علاقاته التاريخية رهينة مشاريع إقليمية لطرف مهَيْمن فيه، وباحتجاز الحكومة وتأخير الإصلاحات، وهو ما يبدو أنه ما زال المدخل للحصول على دعم يتجاوز «الإنساني»، وخصوصاً أن حتى شكل استقالة وزير الإعلام وتوقيتها انطوى على محاولة تظهير أنها «تَراجُع» لفرنسا وليس أمام الرياض وأن الحزب لم يقدّم فيها فعلياً شيئاً «من جيْبه» بل سلّم ورقة «محروقة» أصلاً، وفق ما عبّر عنه قرداحي نفسه بقوله إن بقائي في الحكومة «بات عبثياً».
وكانت الرهانات على مهمة ماكرون في السعودية خصوصاً راوحت بين وقف تدحْرُج الأزمة مع لبنان نحو إجراءات خليجية أكثر تشدُّداً وبين عودة الأمور إلى ما كانت عليه قبل 29 اكتوبر أي تاريخ سحب السفراء الخليجيين الأربع وإبعاد السفراء اللبنانيين ووقف التعامل التجاري (من السعودية مع لبنان)، وسط توقفٍ عند كلام الرئيس الفرنسي قبيل وصوله الى السعودية عن أنه يتمنى «أن أعيد التزام دول الخليج، على الصعيد السياسي والاقتصادي، بمساعدة لبنان لإخراجه من هذا الوضع»، وهو ما بدا بمثابة «الهدف الصعب» الذي عبّر سيد الاليزيه بنفسه عن «الحذر» تجاهه رغم اعتباره «أن هذا أحد أهدافي في هذه الزيارة عندما أتكلم عن الجهود للسلام والأمن في المنطقة. وأنا أرى أن للسعودية دوراً أساسياً تاريخياً»، مشيراً الى أن «استقالة قرداحي ستفتح الباب أمام إمكان إعادة المبادلات بين لبنان والسعودية».
وكان ميقاتي، الذي تحدّاه قرداحي لأسابيع رافضاً تمنيه عليه بالاستقالة، رفع سقف موقفه مما ارتكبه وزير الإعلام مقدّما للمرة الأولى «نصف اعتذار»، بإعلانه في بيانٍ بعد الاستقالة «إذ نبدي أسفنا لما حصل سابقاً وأن يكون صفحة من الماضي قد طويت، نتطلع إلى إعادة العلاقات الطبيعية بيننا وبين الاشقاء في المملكة العربية السعودية ودول الخليج على قاعدة الاحترام والمحبة وحفظ سيادة كل دولة وأمنها وخصوصيتها وكرامة شعبها»، مؤكداً «ان استقالة الوزير قرداحي كانت ضرورية بعد الأزمة التي نشأت مع المملكة وعدد من دول مجلس التعاون الخليجي، ومن شأنها أن تفتح باباً لمعالجة إشكالية العلاقة مع الاشقاء في المملكة ودول الخليج، بعد تراكمات وتباينات حصلت في الأعوام الماضية».
وشدد على «أننا حريصون على تطبيق ما ورد في البيان الوزاري لحكومتنا لجهة تعزيز علاقات لبنان مع الدول العربية الشقيقة والإصرار على التمسّك بها والمحافظة عليها، والحرص على تفعيل التعاون التاريخي بين بُلداننا العربية والنأي بالنفس عن التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية وفي نزاع عربي- عربي»، مؤكداً «أن الحكومة عازمة على التشدد في اتخاذ الإجراءات الكفيلة بضبط الحدود البحرية والبرية ومنع كل أنواع تهريب الممنوعات الذي يضر بأمن الدول العربية الشقيقة وخصوصيتها، ولا سيما دول الخليج والسعودية بشكل خاص. كما تؤكد الحكومة رفض كل ما من شأنه الإساءة الى أمن دول الخليج واستقرارها، وتدعو كل الأطراف اللبنانية الى وضع المصلحة اللبنانية فوق كل اعتبار، وعدم الاساءة بأي شكل الى الدول الشقيقة والصديقة أو التدخل في شؤونها».
الأزمة الحكومية... في الأفق المقفل دُر
وفي موازاة هذا البُعد من استقالة قرداحي، فقد بدا ميقاتي وكأنه أزاح عن كاهله عبء ملفٍّ تشابَك مع الأزمة الحكومية المرتبطة بإصرار الثنائي الشيعي «حزب الله» ورئيس البرلمان نبيه بري على إقصاء المحقق العدلي في انفجار مرفأ بيروت القاضي طارق بيطار، ليصبح التركيز منصبّاً بالكامل على اجتراح مخرج لهذه الأزمة المستحكمة منذ 12 اكتوبر الماضي، وسط رصدٍ دقيق لِما إذا كانت الاستقالة من ضمن «صفقة» أو مقايضة تشتمل على «تقليم أظافر» المحقق العدلي في «بيروتشيما» وكف يده عن ملاحقة الرؤساء والوزراء وتكريس ذلك في عهدة المجلس الأعلى لمحاكمتهم عبر آلية تمر بالبرلمان وربما أيضاً على منْح رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل «هدية» وقف العمل باقتراع المغتربين للـ 128 نائباً كل في دائرته لدورة ربيع 2022 وفق التعديل الذي أدخله البرلمان على قانون الانتخاب وطعن به «التيار».
وإذ كان ميقاتي عبّر عن هذا الاستعجال بتذييله بيان ما بعد استقالة قرداحي بتجديد «مطالبة جميع الاطراف بالعودة الى طاولة مجلس الوزراء للقيام بتنفيذ ما هو مطلوب من الحكومة في هذا الظرف الصعب»، فإن أي مؤشرات لم تبرز بعد إلى أن أرضية هذه الصفقة باتت مكتملة، في ظلّ تَرَقُّب المدى الزمني الإضافي الذي سيمنحه رئيس الحكومة قبل أن يوجّه دعوة لجلسة لمجلس الوزراء يفضِّل ألا تكون «مفخّخة» بأزمة بيطار وأن يكون سبقها سحْب فتيل هذا الملف تلافياً لمقاطعة الثنائي الشيعي ونقل المشكلة إلى بُعد أكثر احتداماً.
ولم تبرز معطياتٌ أمس تشي بتراجُع «التيار الحر» عن رفْض التصويت «الجَماعي» من تكتله لمصلحة تكريس صلاحية «الأعلى للمحاكمة» في ملاحقة الرئيس السابق للحكومة حسان دياب و4 وزراء سابقين (بينهم 3 نواب حاليين) واقتصار موافقته على توفير نصاب انعقاد جلسة نيابية تطرح هذا البند، وهو ما يرفضه بري الذي يتريث تبعاً لذلك في الدعوة لمثل هذه الجلسة (علماً أن جلسة تشريعية للبرلمان تُعقد الثلاثاء).
وجاءت «رسائل» الأفق المسدود حتى الساعة حكومياً مزودجة:
• أولاً على لسان وزير الثقافة محمد المرتضى الذي طالب عون «الذي أقسم اليمين على احترام الدستور وصون المؤسسات، بأن يعمل على تصويب المسار، لا بالتدخل في شؤون السلطة القضائية، ولكن بإخراج الطاغوت من دار العدالة، وبإيجاد وسائل تنفيذية لتوكيد احترام الدستور والقوانين من جميع السلطات»، معلناً «ان العدالة بوابة انتصار الحقيقة»، قبل أن يتساءل «كيف لطالبي الحق أن يدخلوا إلى رحابها إذا أحكمت أقفالها ورُميت مفاتيحها في بحر المشاريع الشخصية والسياسية والسلطوية الخارجية والداخلية»؟
• وثانياً بمضيّ «التيار الحر» في رفْع الضغط على رئيس الحكومة، مطالباً إياه بـ «القيام بواجبه الدستوري بدعوة مجلس الوزراء للانعقاد وبحث المواضيع والملفات التي يُفترض به اتخاذ قرارات في شأنها، ولا سيما الحياتية المتصلة بيوميات الناس»، «مكرراً» الاستياء من استمرار تعطيل مجلس الوزراء من دون أي مبرّر، فالحكومة غير مسؤولة ولا صلاحية لها في حسم الخلاف القضائي القائم. وإيجاد الحلّ هو من صلاحية القضاء أو مجلس النواب الذي يمكنه أن يتّبع الأصول اللازمة في هذا المجال.
ولم يكن ينقص المشهد الحكومي المقفل، إلا ارتسام معالم إشكالية تتصل بما كُشف عن أن رئيس «تيار المردة» سليمان فرنجية لن يسمي بديلاً لقرادحي الذي كان من حصته، وهو ما قد يفتح باب ريح جديداً في ظل التجاذبات المتوقعة حيال الجهة التي ستتولى اختيار الخلَف، خصوصاً في ضوء تداعيات ذلك على التوازنات «ولو الشكلية» التي بُنيت عليها الحكومة وفق معادلة ثلاث ثمانيات أي بلا ثلث معطّل «نافر» لأي من مكوناتها الرئيسية.