خلص من محنة الجب، ودخل في محنة الحب، ذهب ذلك الظلام والخوف، وجاءت الحياة الوارفة في قصر منيف.
جمال أخاذ ما زالت تضرب به الأمثال حتى يومنا هذا وأيام الأمم اللاحقة.
جمال ما خلق مثله، جمال وجه، وملاحة قسمات، وتناسق المقاطع وكمال الجسم... وهالة من الحسن الرباني النوراني المبهر، وسمو الروح ونقاء السريرة وما أسبغه الله عليه من عفة، وحسن يأسر الألباب.
وكم رمت قسمات الحسن صاحبها وأتعبت قصبات السبق حاويها. تقدمت به الأيام، وأظله ربيع العمر، وخلع قميص الحداثة ولبس برد الشباب، وهز الأفئدة من حوله... هو في هذا القصر المنيف وبه سيدة القصر بجمالها وهيبتها... لقد شغفت بهذا الفتى حباً، أسرها جماله وفتنته ورجولته وبهاؤه، فأخذت ترقب حركاته، فوسوست به وتمنته وهي عظيمة مصر... وعصف الحب بقلبها.
وأشد ما لاقت من ألم الجوى قرب الحبيب وما إليه وصول كالعيس في البيداء يقتلها الظما والماء فوق ظهورها محمول. جاءت تعبر عن حبها بكبرياء، لمكانتها وعلو قدرها بين قومها، وجاذبته ثوب الغرام، ونصبت حبائل الفتنة، وأعرض عن تلميحها، وغض بصره، واعترض أن تجنح به نفسه إلى معصية.
هذا الإعراض والجفا أثار هواها، وأشعل کامن غرامها، فرأت أن تتخطى التلميح إلى التصريح، فما بقي في كنانتها سهم للصبر، ودعته إلى مخدعها، فلبى أمرها لطاعته، ثم أسدلت الستر، غلقت الأبواب وقالت: هيت لك... بمعنى تهيأت لك، بأجمل ما ارتدته، وبأزكى العطور، وبنفس منبسطة راغبة وشغف ملح... اندفع ضيف القصر وكاد أن يقع بحبال الرغبة والشهوة حتى رأى برهان ربه فصدعه. رفض الفتى هذا الطلب المغري، لأن قلبه مشغول بربه وقال لها: معاذ الله أن أجيبك إلى ما تريدين أو أذعن إلى ما تطلبين وحاشاي أن أخون مولاي العزيز، وهو الذي أحسن مثواي وأكرم مأواي، وما أنا بمنكر للنعمة ولا أنا بجاحد للجميل... وهذا التصوير الرباني للموقف: «وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون»... وفيما هو في أمره معها إذ دخل الزوج وكان ذكياً فطناً، فسمع القضية والحوار الذي بدأته... فقال إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين... وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين. وفي التصوير الرباني: «واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر وألفيا سيدها لدى الباب»، وثارت العاشقة لكرامتها، «قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً إلا أن يسجن أو عذاب أليم». قال «هي راودتني عن نفسي وشهد شاهد من أهلها...» وامتثل الزوج الملك لنتيجة العقل، فلما رأى قميصه قد من دبر وضح الحق لديه، والتفت إلى زوجته وقال: إن هذا من كيد النساء، فاستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين وأنت يا يوسف امسك لسانك عن الخوض في هذا الحديث، خشية أن يشيع الخبر... ولكنه شاع عن طريق النسوة... وأرادت أن ترفع الملامة عن نفسها لأن الأمر لا تطيقه امرأة، وللجمال سلطان فوق مقدرة البشر، فدعت صويحباتها وقالت ليوسف اخرج عليهن... فخرج وطاف حولهن، فشاهدن البهاء والحسن والجمال السحري، أبلج الغرة، حلو الملامح ونفس جميلة آخاذة «ما هذا بشراً إن هذا إلا ملك كريم».
قالت لهن هذا يوسف الذي لمتنني فيه، وخضتن في حديثي معه وهذا شأنكن فيه.
إن الله جلت قدرته قد منح يوسف هذا الجمال ومن كانت تنطق به أسارير وجهه من العفة والتعالي عما في الحياة من نزوات وشهوات: «فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشراً إن هذا إلا ملك كريم»، وقالت: «فذلك الذي لمتنني فيه»، وانصرف يوسف عن مجلس النساء والتفت النساء نحوه فرفع رأسه قائلاً: «قال رب السجن أحب إليّ مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين»... قصة مذهلة تصعب على من يريد اختصارها، ويحيطها بكلمات، إنها من قصص القرآن الكريم، النبي کريم يوسف عليه السلام.