الرأي اليوم
لماذا وصلنا إلى هنا؟
خفّف كمية السكر في التموين. قلّل مقادير الرز. قلّص المعكرونة. خفّض وزن الدجاجة...
صدّق أو لا تصدّق. لسنا في بقّالة بل نحن هنا نتحدّث عن حكومة تحاول إخراج الكويت من مأزق اقتصادي كبير.
نكمل على المنوال نفسه إنما مع «منتجات» مختلفة: تخفيض العلاج في الخارج. تقليص المشاركة في مؤتمرات. اختصار المُهمّات الرسمية وبدل التمثيل. لا دعم عمالة لمن كان راتبه أعلى من 3 آلاف دينار أو لمن بلغ الستّين. التفكير في إلغاء بطاقة عافية للتأمين الصحي. رفع رسوم الخدمات... وغيرها الكثير ممّا تجود به الاجتماعات الحكومية سواء تعلّق الأمر بقرارات أو بأفكار ودراسات.
وصدّق أو لا تصدّق أيضاً، أن الحكومة عندنا اكتشفت «فجأة» وبعد جائحة كورونا أن الوضع المالي للكويت يصل إلى مرحلة الخطر وأن عجز الميزانيّة المرتفع باطّراد يُهدّد بأزمات اجتماعية كبيرة. وأمام «مفاجأة» هذا الاكتشاف بادرت سريعاً إلى اتخاذ حلول ترقيعيّة أقرب إلى المُسكّنات أو لنكن مُنصفين أقرب إلى شغل محاسبي المؤسّسات التجارية الذين يحاولون دائماً موازنة الموازنة عبر تقليص المصروف ما أمكن... ومن نافل القول إن إدارة الحكومة لهذه الأزمة وبهذا الشكل سيفقدها ما بقي من رصيد ثقة لدى الكويتيّين.
الدول ليست مُؤسّسات تجاريّة، بل هي المنظومة الحاضنة للجميع من بشر ومُؤسسات، ولا تلام حقيقة الحكومة الحالية على طريقتها في العمل فالحكومات السابقة كلها أسّست لهذه الطريقة، ومن الظّلم أن نتوقّع منها انقلاباً في التفكير والإدارة على النّهج الذي تسير عليه فلا يُكلّف الله نفساً إلا وسعها.
من دون الدخول في تفاصيل البحث العميق عن عقم هذه الحلول وعدم جدواها، وحجم الوفر الناتج عن الإجراءات القائمة وقدرته على موازنة أمور الموازنة، فإن السؤال الذي يطرحه كل كويتي اليوم هو: ما هي الأسباب التي أدت إلى وصول الكويت إلى هذا المنحدر المالي والاقتصادي؟ دولة صغيرة غنية مرّت بأسوأ التجارب التي استهدفت وجودها نفسه وعاشت مراحل كثيرة وصل فيها سعر برميل النفط إلى 10 دولارات وبقي اقتصادها نشطاً ووضعها المالي جيداً... كيف يتآكل اقتصادها اليوم؟ لكن الجهة المخوّلة بهذه الإجابات ليست الحكومة بالتأكيد التي عليها أن تمتلك الجرأة وتشكّل فريق عمل أو سمّه خلية أزمة أو ورشة إنقاذ من كفاءات محلّية اقتصادية واجتماعية نفخر بها ومن خبرات أجنبية على أعلى المستويات. وظيفة هذا الفريق الجلوس معاً والتفكير بكل عمق وموضوعيّة وعلميّة وشفافيّة وحياديّة للإجابة عن السؤال: لماذا وصلنا إلى هنا؟
هل كانت المشكلة في النهج الحكومي الذي طبق المثل الشائع «من شبّ على شيء شاب عليه»؟ في الرؤية التنموية؟ المشاريع والأولويات؟ هل كانت المشكلة في جزء من طريقة عمل مجلس الأمة التي رأى فيها نواب كثيرون أنها تُؤمّن شعبوية انتخابية على حساب التشريع والرقابة مع ما يؤدّي إلى تعطيل الكثير من الإجراءات الاقتصادية الضروريّة؟ وهل كان تناغم الحكومة مع هؤلاء في شراء الولاءات وعقد الصفقات معول هدم في مسيرة التنمية؟
هل اعتماد الكويت على مصدر واحد للدّخل وعدم تشجيع مختلف أنواع الصناعات هو السبب؟ عدم تحويل الموانئ الكبرى إلى مناطق حرّة لإعادة التصدير؟ بقاء «المركز المالي» شعاراً دون تطبيق رغم جهود المعنيّين الصادقة؟
هل هو الهدر الذي يجد ألف سبب لتبريره؟ مثال على ذلك أن جائحة كورونا التي جمّدت العلاج في الخارج لنحو سنتين كشفت القدرات الصحية المحلية والخبرات والكفاءات الكويتية تحديداً وتمت تأدية الغرض بنجاح كبير من خلال «العلاج في الداخل».
هل هي طريقة التعاقد في الصفقات الكبرى التي ينتج عن إحداها مثلاً عمولات تفوق كل ما تريد الحكومة توفيره من السكر والرز والمعكرونة والدجاج لسنوات؟
أسئلة كثيرة تطول ولا تكفيها مُجلّدات، وهي متروكة لفريق العمل الذي ستكون مُهمّته صعبة إنما غير مُستحيلة بالتأكيد، خصوصاً أن الكويت فيها من الشفافية الشيء الكثير والبيانات المالية للدولة منذ 30 عاماً موجودة ومتاحة ويمكن الرجوع إليها في أي وقت. وكذلك فحرية الوصول إلى مسارات مختلف الإجراءات الإدارية طريقها سالك عبر المُؤسّسات القائمة ومحفوظاتها.
عندما يخرج هذا الفريق بإجابات عن سبب وصول الحالتين المالية والاقتصادية في الكويت إلى هذه المرحلة من التراجع يسهل عليه وضع حلول ومقترحات سيتقبّلها الناس رغم قساوة بعضها حتى وإن تطلّب ذلك تفعيل تغييرات جذرية في أسلوب عمل المنظومة السياسيّة التي تدير الأمور بشقّيها مجلس الأمة والحكومة.
عندما يعرف الكويتيون بشفافيّة لماذا وصلنا إلى هنا نكون كمن قطع أكثر من نصف الطريق إلى الحلّ، وعندما يلمسون مقترحات الخروج من الأزمة بوضوحها ويقفون عند مكامن الخلل وسوء الإدارة وعقم التخطيط وضعف التنفيذ، سيدركون أن المعالجة أكبر من أساليب الحكومة والمجلس، وستتّجه الأنظار مباشرة إلى العهد الجديد، وتكبر التوقعات بنهج جديد... وحتما سيلتفّ الكويتيّون حول القيادة ويؤيّدون كل الخطوات التي تتّخذها لحفظ الكويت.