اكتشاف بحثي رائد يبشر بزيادة فرص نجاح العمليات الجراحية من هذا النوع

«الذات الغائبة»... كلمة السر وراء رفض الجسم للأعضاء المزروعة

No Image
تصغير
تكبير

يوفر نقل وزرع الأعضاء جراحياً خياراً ملائماً يمكن اللجوء إليه للاستعاضة عن الأعضاء الحيوية التي تتلف أو تفشل في أداء مهامها، إلا أن عمليات زرع الأعضاء ما زالت تواجه العقبة المتمثلة في رفض الجسم للعضو المزروع.

فعلى الرغم من التحاليل الطبية التي تسبق إجراء عمليات زرع الأعضاء بهدف التأكد من التوافق بين المتبرع والمريض والأدوية المُثبطة للمناعة التي يتلقاها المتلقي بعد عملية الزرع، فإن احتمالية رفض الجسم للعضو المزروع تبقى قائمة في حالة على الأقل من بين كل خمس حالات.

ولطالما سيطر الاعتقاد بأن ذلك الرفض يكون مدفوعاً بالخلايا التائية والخلايا البائية بشكل أساسي، وأن الخلايا غير النوعية - كالخلايا البطانية والخلايا القاتلة الطبيعية أو الضامة – هي أيضاً عناصر تلعب دوراً في رفض الزرع. لكن الآليات الحقيقية الكامنة وراء عمليات الرفض ظلت غير معروفة بالكامل.

من هنا كانت أهمية دراسة حديثة أجراها باحثون من جامعة «لوفان» البلجيكية، وهي الدراسة التي استكشفوا من خلالها للمرة الأولى الدور الذي تلعبه آلية من آليات الرفض تعرف طبياً باسم «الذات الغائبة» (missing self)، وهي الآلية التي يُمكن أن يؤدي اكتشاف طبيعة ومدى دورها إلى خلق فرص غير مسبوقة لنجاح عمليات زرع الأعضاء عموما والكلى خصوصاً.

نسلط في التالي أضواء على نتائج تلك الدراسة... بعد زرع عضو جراحياً، يتعاطى المريض المتلقي أدوية لتثبيط جهاز مناعته بسبب احتمالية تعرُّف جسمه على العضو المزروع باعتباره كائناً غريباً فيبدأ في رفضه.

وصحيح أن مثل هذه الأدوية التثبيطية تنجح إلى حد ما، ولكن ما زال 15 إلى 20 في المئة من المرضى يعانون من رفض أجسامهم للكُلْية المزروعة.

لكن البروفيسور مارتن نايسنس - الأستاذ بقسم الأحياء الدقيقة والمناعة وزرع الأعضاء بجامعة «لوفان» البلجيكية – نجح هو وباحثون آخرون في إثبات أن آلية الرفض المعروفة باسم «الذات الغائبة» تلعب دوراً مهمّاً في المرضى الذين يخضعون لعمليات زرع الكُلى.

وقبل الخوض في التفاصيل، من المهم توضيح أن العلاج القياسي الذي يقمع المناعة يعتمد على فكرة أن الجهاز المناعي يهاجم الخلايا الغريبة عن الجسم، وإذا ما لم تكن عملية النقل والزرع بين توأمين متطابقين، فإنه يكون هناك دائماً تفاوت بين أنواع الأنسجة لدى كل من المتبرع والمتلقي. ويؤدي ذلك التفاوت إلى رد فعل مناعي عكسي، وهو ما يُطلق عليه «رفض العضو المزروع».

وفي التفاصيل، فإن الباحثين في الدراسة التي نشرتها دورية «جورنال أوف ذي أميريكان سوسايتي أوف نيفرولوجي (JASN)» اتبعوا نهجاً مختلفاً رصد تأثير «الذات الغائبة».

فعوضاً عن البحث عن آلية الرفض التي تنجم عن وجود نسيج غريب مزروع، تمحور اهتمام البروفيسور نايسنس وأفراد فريقه حول رصد الرفض الذي ينجم عن «غياب» النسيج المنسجم تماما مع المتلقي.

ينطلق قطار الرفض في شكل الخلايا القاتلة الطبيعية التي توجد في جسم كل إنسان، وهي الخلايا التي تتمثل مهمتها في رصد ومهاجمة أي نسيج جديد إذا لم تجد فيه بروتينات ذاتية معينة متوافقة تماما مع الجسم، وتكون نتيجة ذلك هي رفض العضو. أما عندما تجد الخلايا القاتلة تلك البروتينات الذاتية في نسيج العضو المزروع، فإنها لا تهاجمه وتتركه ليندمج.

تؤدي الخلايا القاتلة الطبيعية دوراً مهمّاً في جهاز المناعة - مثل مكافحة السرطان. وباستخدام بروتينات «معقد التوافق النسيجي الكبير»، تفحص الخلايا القاتلة كل خلية جديدة لتحديد ما إذا كانت إحدى خلايا المضيف.

و «معقد التوافق النسيجي الكبير» هو عبارة عن مجموعة من البروتينات المزودة بواسمات ذاتية تشبه تماماً بصمة الأصبع، أي أن كل خلية تحتوي على واسمة خاصة بالشخص، وتختلف هذه البروتينات من شخص إلى آخر، وعلى هذا الأساس تحدد بروتينات مَعْقَد التوافق النسيجي الكبير نوع الأنسجة.

كما تحتوي الخلايا القاتلة الطبيعية على مستقبِلات محددة تمكنها من التعرف على بروتينات مَعْقَد التوافق النسيجي الكبير على أنها ذاتية.

وفي هذه الحالة، تترك الخلايا التي توجد فيها تلك البروتينات دون إزعاج.

وعندما تتطور الأورام السرطانية على سبيل المثال، تتعطل بروتينات مَعْقَد التوافق النسيجي الكبير الموجودة على هذه الخلايا السرطانية، ولا تتعرف عليها البروتينات، وبالتالي لا يتم تنشيطها ولا تهاجم الخلية السرطانية.

وعلى سبيل المثال، عندما تنمو الأورام السرطانية فإن بروتينات مَعْقَد التوافق النسيجي الكبير الموجودة على هذه الخلايا السرطانية تتعطل، وبالتالي لا يتم تنشيطها ولا تهاجم الخلية السرطانية لتكبح نموها.

لكن الأمر يختلف في حال زرع الأعضاء، وخصوصاً زرع الكُلى. فقد أظهرت الدراسة البحثية الجديدة التي تمحورت حول حالات زراعة كلى جراحياً أنه يمكن تنشيط آلية مماثلة بعد زرع الأعضاء؛ إذ تختلف بروتينات مَعْقَد التوافق النسيجي الكبير من شخص إلى آخر.

ولذلك، غالباً ما تحتوي كُلْية المتبرع على بروتينات أخرى غير تلك الموجودة في جسم المريض. وتقوم الخلايا القاتلة الطبيعية بعملها، وتبحث عن بروتينات مَعْقَد التوافق النسيجي الكبير في الجسم، ولكنها لا تجدها، وبالتالي تهاجم خلايا المتبرع وتقضي عليها، وترفض العضو المزروع.

ولرصد آلية «الذات الغائبة» التي ذكرناها آنفاً، استخدم الباحثون تحليل الحمض النووي.

وارتكزت فرضية الباحثين على أنه إذا كان لدينا عضو مانح فيه بروتينات مَعْقَد التوافق النسيجي الكبير التي لم تهاجمها الخلايا القاتلة الطبيعية للمريض، فستكون فرصة رفض العضو المزروع بعد العملية ضئيلة جدا وشبه منعدمة.

واستكشف الباحثون بيانات من 924 مريضاً خضعوا لعمليات نقل وزرع كُلى جراحياً في مستشفيات جامعة «لوفان».

وبعد الزرع، تم وضع نتيجة الزرع والحمض النووي للمريض والعضو المتبرع في قاعدة بيانات معاً، وهذه هي الطريقة التي وجد بها الباحثون أن فرص رفض الزرع مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالتوافق بين بروتينات مَعْقَد التوافق النسيجي الكبير للعضو المتبرع والخلايا القاتلة لدى المريض المتلقي.

ولاحظ الباحثون أنه على الرغم من أن تحليل الحمض النووي لجزيئات مَعْقَد التوافق النسيجي الكبير يُعد بالفعل جزءاً قياسيّاً من عمليات زرع الأعضاء، فإن تحليل الحمض النووي الحالي الذي يربط المريض بعضو مانح يعتمد جزئيّاً على التشابه في نوع الأنسجة.

وفي ضوء نتائج تلك الدراسة، أوصى الباحثون بتوسيع هذا التحليل للكشف عن وجود مستقبلات تُسمى «المستقبلات الشبيهة بالغلوبولين المناعي للخلايا القاتلة» (KIR) وتوجد في الخلايا المناعية القاتلة الموجودة في أجسام المتلقين. وفي حال وجود تلك مستقبلات KIR، فإن هذا يعني أن احتمالية رفض العضو المزروع كبيرة.

أما إذا كانت تلك المستقبلات غير موجودة، فهذا يعني أن العضو لن يرفضه الجسم بعد عملية الزرع.

وعن ذلك قال كبير الباحثين «جاسبر كالمين»– المتخصص في الطب الباطني بمستشفيات جامعة «لوفان»: «ذلك الفحص سيساعد على اختيار المرضى المستحقين للزرع، والذين لديهم فرص أكبر لاستقبال العضو المزروع».

واختتم بالقول: «إن قلة عدد الأعضاء المتاحة للزرع مع طول قائمة المنتظرين لتلقي الأعضاء تجعل من الضروري رفع نسب نجاح عمليات الزرع من خلال التأكد من عدم رفض جسم المتلقي للعضو المزروع؛ إذ إن ندرة الأعضاء وقوائم الانتظار الطويلة تجعل كل عضو مُتاح كنزاً وثروة تساوي حياة كاملة»، معبراً عن ثقته بأن من شأن هذا الاكتشاف البحثي الرائد أن يسهم في تعزيز فرص نجاح عمليات زرع الكلى خصوصاً والأعضاء عموماً.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي