فارس ساسين تَرَجَّلَ هو الآخَر فسقط غصنٌ من «الفكرة اللبنانية»
جبور الدويهي روائي المطر الشريد غفا مع نعاس بيروت واحتضارها
- الدويهي الشخصية الأنيقة خَرَج من رهافة الأدب الفرنسي وطواعية اللغة العربية السهلة والعبارات الرشيقة
... ما سرّ كل هذا الموت الذي يقبض على روح لبنان وعلى روح لبنانييه؟ أيُّ لغزٍ هو هذا التزامُن بين احتضار «الفكرة اللبنانية» وأفول نجم روادها؟ لماذا يموت المرفأ ومدينته وناسها الطيبون ويَغْدُرُ الزمنُ بحالميها وكتّابها وكبارها؟
بفارق ساعات من الزمن اللبناني الأسود، ودّع الوجهُ المُشْرِقُ من الوطن الجميل اثنين من أمجاده وصنّاع أبجديته الحديثة، الروائي الناصع الصارخ جبور الدويهي والمثقف الموسوعي فارس ساسين، الصديقان في الحياة والرفيقان في الرحيل.
*****
لم يكن جبور الدويهي يخرج من زغرتا ليعود إليها. فالمدينة العالقة بين تواريخ وحيوات مختلفة، تدخل في قلب أبنائها، كما يدخل هواء إهدن البارد، وروائح حرجها الفريد. حتى يصبح الغياب أو الحضور واحداً، في حضرة المدينة التي تلتفّ على وجعها، كما في كل موت، مهما كان شكله.
للموت في زغرتا شكل آخَر. ولوداع أبنائها أشكال من الاحتفالية بالولادة والحياة والموت. جبور الدويهي واحد من هؤلاء، الذين حملوا عنواناً زغرتاوياً أصيلاً «الموت بين الأهل نعاس» فكان عنوان روايته، وهو الذي يغفو إغفاءته الأخيرة بين أهله وأصدقائه. لذا لا يمكن الكتابة عن هؤلاء إلا بمقدار الكتابة عن البلدة ذات الفرادة بخصوصية إهدن الجبلية وزغرتا الساحلية، التي وُلد فيها وسافر وعاش خارجها وعاد إليها، وكتب عن مآسيها وفرحها وناسها، وهو الذي يقول بلسان أبناء مدينته «لولا إهدن لكنت شخصاً آخر».
ابن إحدى العائلات العريقة والتاريخية في البلدة التي قدمت بطريركاً على طريق القداسة، وأساقفة وأدباء وشعراء ومثقفين ومسرحيين وفنانين وسياسيين، يتميزون بفخرهم بالانتماء إليها. أستاذ جامعي، وروائي كما شقيقه الأديب أنطوان الدويهي، عَرف كيف يحول الرواية حدثاً موسمياً، في عملية إبداعية متكاملة، على مدى ثلاثين عاماً.
ابن زغرتا درس في مدرسة «الفرير» في طرابلس وفي كلية التربية في الجامعة اللبنانية وتماهى مع اليسار، وانتقل إلى باريس ليحصّل شهادة في الأدب المقارن وعاد إلى لبنان أستاذاً جامعياً في الأدب الفرنسي في الجامعة اللبنانية وروائياً حفظ له مكانة لافتة في المشهد الأدبي.
روائي وناشط في الحقل السياسي، لم يتورّع يوماً عن التعبير عن آرائه السياسية من دون مواربة، فلا يضطر إلى إخفائها مهما كانت حادة، بحجة تميُّز موقع الأديب والروائي عن الانحياز العام، إن عبر مقابلاته التلفزيونية والصحافية أو عبر صفحاته على مواقع التواصل الاجتماعي.
شارك في يوميات تظاهرات العام 2005 من دون توقف وفي حلقات النقاش السياسي. ووقف ضد الوجود السوري، و«حزب الله» والعماد ميشال عون بقوة، وظل منحازاً إلى التظاهرات ضد السلطة في لبنان.
ولا يمكن الكلام عن الرواية من دون الإطلالة السياسية، فكلاهما كانتا في صلب حياة جبور الدويهي الشخصية الأنيقة، والخارج من رهافة الأدب الفرنسي وطواعية اللغة العربية السهلة والعبارات الرشيقة. فالسياسة لا تخرج من النص الروائي، لأنها كانت جزءاً أساسياً فيه، وهو يقول عن عدم فصل الرواية عن السياسة «من الصعوبة لأي روائي أن يخرج من اللبننة، والمناطق والطوائف وأشكال العنف التي تجسدت في الحرب». لذا كان تتويج عمله الروائي وكتاباته الأدبية، برواية «مطر حزيران» وهي ليست الأخيرة، لكنها تُعدّ أفضل كتبه، كما «شريد المنازل» و«طبع في بيروت».
ورواية «مطر حزيران» تأخذ حيزاً في الزمان والمكان من واقعة مجزرة مزيارة في يونيو عام 1957 في كنيسة مزيارة والتي سقط ضحيتها عشرة من أبناء عائلة الدويهي، فيأخذ الراوي إلى أمكنة الحادثة التاريخية، راسماً التراجيديا الزغرتاوية بتفاصيلها الملحمية والاجتماعية وتفاصيلها الموجعة بأسلوبٍ سردي جمع فيه أخبار العائلات والموت والتهجير والثأر، فأصبحت رواية الجميع، ولم تعد صوته وحده بل صوت جميع الرواة والضحايا من عائلات ثكلت وأخرى أصيبت وأخرى تَهَجَّرَت.
بدأ روائياً بالفرنسية لينتقل لاحقاً إلى العربية، وشكلت بيئته الجغرافية أساساً ليسرد رواية خطت مساراً جديداً في الرواية اللبنانية، مُحْدِثاً تغييراً في بنيتها وتركيبتها وتَشابُك شخصياتها. ثقافته في الأدب الفرنسي والغربي، ساهمت في تمتين تركيبته السردية، وتجميعه للأحداث والتشابكات فيخرج معه نص معجون بالأحداث والأخبار والشخصيات والحبْكات المتتالية. وهو يعطي للمكان حيزاً أساسياً في نصه الأدبي، مختزلاً أمكنة كثيرة متنوعة عاشها وعاشتها شخصياته، فيصبح الحي والدكان والنهر والبيت والقرية والمدينة مسرحاً لـ«الخبرية» وملحقاتها، فتتلاحق الخبريات الواحدة فوق الأخرى، لتكتمل الرواية، ويعطي الأمكنة عناوين للكتب: عين وردة، حي الأميركان التي إستوحاها من أحد أحياء طرابلس حيث كان يتعلم، وريا النهر، وشريد المنازل، و طُبع في بيروت. لذا تصبح الأمكنة كإحدى الشخصيات الرئيسية في النص، كما في قلب النصوص وبعضها مأخوذ من بلدته، ساحة الميدان، المقهى والفندق والتلال الجردية العالية، والشرفة، وكلها من صورها ويوميات أهلها، فتتشابك الأحداث والذكريات مع الواقع بالإسلوب المتدرج إلى العصرنة والحداثة.
مزج جبور الدويهي حيوات بكاملها في نصه، حتى بدا أحياناً وكأنه يكتب عملاً بحثياً اجتماعياً، تختلط فيه العادات اليومية والرجالية والنسائية، والندب والغناء والحرب واليوميات الباهتة، كلها في قالب لا يملّ منه قارئه، لينتقل لاحقاً إلى المدينة بشوارعها وأسواقها وحروبها وشخصياتها المسحوقة.
شخصياته مزيج من المركّبة والبسيطة في الوقت نفسه، نساء من القرية أو المدينة، بين العشق والغرام والحضور الدائم والأسرار المخبأة، ورجال أكلتهم الحياة والحروب والهجرة والأحلام الميتة، ومجموعة أطفال وكأنهم لا يكبرون في الرواية ولهم حصة شبه دائمة فيها، فيصير للأحداث من عين الطفل كما في رواية «مطر حزيران» مغزى آخر.
برحيله يصمت صوت آخَر من جيل أَحَبَّ لبنان كما تحلم به الذاكرة الثقافية والفنية والأدبية، وأحب بلدته فصار جزءاً منها. شهد جبور الدويهي ولادة آخر كتبه «سم في الهواء»، وهو الذي ترك أهدن قبل موعد الصبحيات والعشيات الباردة على الميدان وترك نصوصه المعلَّقة، في إنتظار عودة راويها من الغربة.