أميركا اختارت «المطرقة الاقتصادية» كحرب أقل كلفة ضد إيران و... محورها
يبدو أن الولايات المتحدة في ظل الإدارة الحالية، غيّرت إستراتيجيتها من دون التخلي عن أهدافها، فلم تعد الحروب العسكرية المباشرة ضرورية بسبب كلفتها البشرية والمادية.
ولم يعد هناك ضرورة لوجود عسكري كبير في الشرق الأوسط، وتالياً، صارت الحرب المقبلة، حرب عقوبات وفتن، لكن يبدو أنها تعطي نجاحاً أكبر بكثير مما أعطته الاحتلالات والحروب العسكرية المباشرة.
وبما أن إيران صمدت على مدى 41 عاماً من العقوبات من دون الرضوخ، فإن أميركا تتجه إلى تحويل المواجهة نحو حلفاء طهران الذين يمثلون «محور المقاومة» الأضعف اقتصادياً، والذين يملكون مقومات صمود أقل تماسكاً، خصوصاً بالنسبة إلى البيئة الحاضنة التي تتعرض لعدم إجماع مجتمعي حول خياراتها ولا تمتلك قرار الفصل في دولها.
وتالياً من الواضح أن المطرقة الأميركية ضد هؤلاء أعطت ثمارها مع احتدام المواجهة ولي الأذرع. فهل تكون الكلمة الأخيرة لواشنطن أم لـ«محور المقاومة»؟
تتغير السياسة الأميركية، بحسب التجارب التي خاضتها في الشرق الأوسط والنتائج التي أنتجتها.
فقد شارف الانسحاب الأميركي من أفغانستان بجزئه الأكبر على نهايته (مع الاحتفاظ بقوة دائمة تحت عنوان مكافحة الإرهاب) بعد 20 عاماً من المعارك الدامية ومقتل وجرح عشرات الآلاف من الجنود الأميركيين وإنفاق أكثر من تريليوني دولار... والنتيجة، كانت سيطرة «طالبان» على معظم المناطق الأفغانية.
واجتاحت أميركا، العراق عام 2003 وفشلت في فرض الاستقرار وجذب جميع المكونات العراقية واضطرت إلى دفع أثمان باهظة مع مقتل وجرح عشرات الآلاف من الجنود الأميركيين وخسائر مادية بلغت نحو تريليوني دولار أيضاً.
ودفعت الولايات المتحدة، القيادة الإسرائيلية إلى شن حرب على لبنان في محاولة للقضاء على «حزب الله» عام 2006 وفشلت في تحقيق «شرق أوسط جديد». وقامت الحرب في سورية عام 2011 لتنفيذ أهداف منها كسر «محور المقاومة»، واستطاعت الحكومة المركزية في دمشق إعادة بسط سيطرتها على أكثر من 70 في المئة من البلاد بعد عشرة أعوام من الحرب الدامية.
وبعد فشل هذه الحروب الباهظة الكلفة واختبار ورقة «داعش» وإخفاقها أيضاً في ضرب «محور المقاومة»، توجهت السياسة الأميركية نحو الفتن الداخلية والحرب الاقتصادية، قليلة الكلفة على واشنطن.
أنتجت الحرب على «داعش» في العراق وأعوام من الفساد والتناحر السياسي الداخلي وسوء الإدارة والخدمات وانهيار البنى التحتية، وضعاً اقتصادياً متعباً. وتالياً، فقد توجه رئيس الوزراء العراقي السابق عادل عبدالمهدي نحو الشرق، إلى الصين، من دون أن يتخلى عن علاقة العراق الإستراتيجية مع الغرب.
فـ«قامت الدنيا» عليه وتدخلت أميركا لإزاحته من الحكم عبر تحركات الشارع بعناوين مختلفة.
واستلم زمام الأمور مصطفى الكاظمي بصندوق مالي فارغ وديون ثقيلة واستحقاقات مالية شهرية لا يستطيع تلبيتها.
وهذا ما جعله أكثر حاجة لأميركا.
وأوجدت واشنطن خطة جديدة في التعامل مع «محور المقاومة» لإخضاعه بعد فشل المحاولات السابقة. فتحرك الشارع العراقي خصوصاً المكون الأقوى والأكبر (الشيعي) لتبرز تظاهرات تعبر عن امتعاض، من بغداد إلى البصرة، حيث الخزان الشيعي، وذلك تحت عناوين من نوع المطالبة بتوفير الكهرباء أو محاسبة المسؤولين المقصرين أو أي شعار آخر استحضر وهو وضع لم تكن أميركا تحلم به.
وبقي فقط مستوى العملة المحلية وقيمتها التي لم تفقدها كثيراً لغاية اليوم. إلا أن الوضع السياسي - الاجتماعي يغلي في مواجهة بين الشارع والقادة السياسيين الذين يتصارعون على السلطة من دون الالتفات إلى الخطر المحدق.
وقد خرج السفير البريطاني (المنتهية مدة خدمته) ستيفن هيكي بتصريحات فسرها العراقيون بأنها إشارة إلى أن الغرب لا يريد للانتخابات أن تحصل في موعدها في أكتوبر المقبل، كما كان قد أعلن الكاظمي وعملت على تحضيراتها الهيئة العليا للانتخابات.
وفاجأ السيد مقتدى الصدر الجميع بإعلانه عدم اشتراكه بالعملية السياسية، ورفض انخراط مكونه في الانتخابات وسحب ترشيح ممثليه (رغم ان مهلة الانسحاب كانت حددت في العشرين من يونيو الماضي). وكذلك رفع الدعم السياسي عن حكومة الكاظمي الحالية.
وقد اعتبر مسؤولون في بغداد أن قرار الصدر، «حركة سياسية لمعرفته أن الانتخابات لن تجري في موعدها المقرر بعدما تبين للغرب - من خلال لوائح المرشحين - أن الأحزاب نفسها المسيطرة ستعود إلى الحكم ولن تتغير موازين القوى السياسية في المستقبل. وهذا ما دفعه - أي الصدر – إلى الخروج قبل إعلان التأجيل ليجذب الدعم اللازم له وليتسلم الشارع من جديد، حتى ضد الكاظمي نفسه».
ومهما كانت النتائج فإن العراق - حيث توجد إحدى الركائز الأساسية لـ«محور المقاومة» - دخل في مهب الريح على وقع إلهاء العراقيين عن المطالبة بانسحاب أميركا من بلاد الرافدين، وذلك عبر انشغالهم بالمشاكل الاقتصادية - السياسية - المعيشية. أما الكلفة الأميركية لخراب العراق الداخلي فهي لا تذكر بالمقارنة مع النتائج الممكن إنجازها.
أما في اليمن، فقد فقدت العملة المحلية قيمتها لتنهار للمرة الأولى منذ 60 عاماً من 548 ريالاً إلى 1000 ريال للدولار الواحد، وسط استمرار معارك الكر والفر على الجبهات العسكرية.
وفي سورية، استطاع «قانون قيصر» للإجراءات التأديبية بحق الحكومة ومصرفها المركزي - التي فرضته أميركا وانضمت إليها أوروبا - إثقال كاهل الاقتصاد السوري وعملته المحلية. فشح النفط والدواء وارتفاعت أسعار السلع وقل وجودها، خصوصاً بعد احتلال أميركا وحلفائها للشمال الشرقي، الذي يمثل سلة الغذاء والطاقة في البلاد.
وبهذا تكون الضربة الاقتصادية والعقوبات تضر بالشعب وتضعف قدرته على التعامل مع الحياة المعيشية اليومية أقسى بكثير مما كانت عليه أعوام الحروب العشرة.
وفي لبنان، تدهورت العملة المحلية وفقدت أكثر من 90 في المئة من قيمتها.
ولم يعد في استطاعة المودعين الحصول على أموالهم من المصارف وقلت الأدوية في الصيدليات وندرت مادة البنزين وحلت العتمة الشاملة وارتفعت أسعار السلع في شكل جنوني.
ولم تسمح أميركا للحكومة اللبنانية بالاستعانة بالصين أو فتح المجال أمام المشاريع الروسية لإعادة تأهيل البنى التحتية وإنشاء مصافي التكرير ومحطات الكهرباء والقطارات والأنفاق.
وهي لن تسمح لدول المنطقة بمساعدة لبنان مادياً والهدف من وراء ذلك دفع المجتمع اللبناني عامة إلى اتهام «حزب الله» بأنه المسؤول عن الأزمة الراهنة بسبب سلاحه الذي يتحدى به إسرائيل ومشاريع أميركا لإخضاع لبنان وسورية والعراق وإيران.
إذاً استطاعت المطرقة الأميركية رخيصة الكلفة، استخدام نفوذها في المنطقة وعلاقتها بأوروبا لمحاصرة التنظيمات والدول التي رفضت هيمنتها وطموح إسرائيل ومشاريعها.
وتالياً فإن سياسة السلاح الاقتصادي والفتنة الداخلية عبر تجويع الشعوب ومن دون التصادم مع «محور المقاومة» وفصائلها وجهاً لوجه، بدا أنه السلاح الأجدى للولايات المتحدة لحرف الأنظار عن أولوية المعركة لإخراج وجودها من المنطقة.
إنها إستراتيجية متجددة تستخدم فيها أميركا كل الوسائل لتقول لإيران وحلفائها، إنها لم تستسلم وان الانتصار سيكون لمصلحة من يبقى واقفاً على أرجله حتى اللحظة الأخيرة.
وهذا يتعلق أيضاً بمسار الاتفاق النووي، الذي إذا ما وقع، من المحتمل جداً أن يقلب ميزان الأمور ويعيد قوة حلفاء إيران إليهم ويسهم بتهدئة الشوارع العربية المضطربة. وهذا ما تعلمه أميركا مما يجعل المفاوضات المقبلة المتوقعة في أغسطس المقبل، أكثر صعوبة.