دراسة رصدت وحلَّلت أسباب قدرتهم أكثر من غيرهم على تجاوز المِحَن النفسية

«المُتديِّنون»... أكثر تأقلُماً مع الشدائد

No Image
تصغير
تكبير

من بين القصص الكثيرة التي سردتها الكتب السماوية، تبرز قصة نبي الله أيوب (عليه السلام) كمثال مدهش يوضح مدى القدرة النفسية الفائقة على الصمود والتأقلم في مواجهة المحن التي أصابته في ماله وفي أبنائه وفي بدنه.

كما تبرز أيضاً قصة نبي الله يعقوب الذي تحلى بالصبر والثبات في مواجهة محنة طويلة بدأت مع ضياع ابنه الأقرب إلى قلبه.

ويبدو صبر هذين النبيين عليهما السلام مثيراً للدهشة والعجب، كما أنه يثير تساؤلات من بينها: كيف استطاعا أن يصمدا ولا يستسلما لليأس والاكتئاب ولا ينهارا نفسياً في مواجهة تلك الشدائد الثقيلة؟ الإجابة القصيرة عن هذا التساؤل هي «القوة الإيمانية النابعة من التديُّن»، أما الإجابة التفصيلية المطولة فأسفرت عنها نتائج دراسة حديثة أجراها باحثون نفسيون تابعون لجامعة إيلينوي الأميركية، ونشرتها دورية «ذا جورنال أوف ريليجن آند هيلث».

نسلط الضوء في التالي على جوانب مما خلصت إليه تلك الدراسة...

بعيداً عن الفكرة الذهنية النمطية التي رسختها بعض الأعمال التلفزيونية والسينمائية - وهي الصورة التي تضع المتدينين في قالب يجعلهم يبدون أشخاصاً يغلب عليهم التعصب والكآبة والتطرف - خلصت الدراسة إلى استنتاجات معاكسة تماماً لتلك الفكرة.

ووفقا للدراسة، فإن مصطلح «المتدين» يعني «الشخص الذي يعتنق عقيدة إيمانية دينية أو روحية مترسخة يستمد منها قناعاته الوجدانية اليقينية التي يرتكز عليها ويحتمي بها نفسياً ويلتجئ إليها كملاذ نفسي عند مواجهة الأزمات والكروب والشدائد الحياتية».

وعن الأسس والعوامل التي اعتُمدت للحكم على شخص بأنه متدين أو غير متدين، قال الباحثون إن جميع المتطوعين الذين شملتهم الدراسة أجابوا عن أسئلة استبانة خاصة تتعلق بالتأقلم الديني، كما وجّه الباحثون إلى عينة البحث أسئلة مباشرة تكشف عن مستوى تدينهم.

وأُجريت الدراسة على عينة عشوائية متنوعة تألفت من نحو 300 متطوع من شريحة الشباب (بينهم 155 أنثى) ممن تتراوح أعمارهم بين 18 و39 عاماً.

وتم إخضاع أفراد عينة البحث لأسئلة مدروسة بعناية توضح إجاباتهم عنها مدى ارتباطهم بالدين والروحانيات، كما تكشف عن مشاعرهم في مواقف الشدائد العصيبة، حيث طُلب منهم الاختيار من بين اختيارات تحدد أساليب التأقلم التي يلجؤون إليها حينما يتعرضون لأزمات أو ضغوط نفسية، ومدى حصولهم على الراحة النفسية من معتقداتهم الدينية والروحية. كما صمم الباحثون أسئلة لقياس مستوى الاكتئاب والقلق لدى المشاركين في الدراسة.

وبشكل عام، لاحظت الدراسة أن الأشخاص المتدينين لديهم قدرة أكبر من غيرهم على مواجهة الشدائد النفسية والتكيف معها سريعاً ويميلون إلى انتهاج أساليب إيجابية في التفكير حينما يتعرضون لأزمات حياتية، وأن النزعة الإيجابية التي يتعاملون بها في مثل تلك المواقف الصعبة تشبه الآليات العلاجية التي يستخدمها الأطباء النفسيون وتسمى «إعادة التقييم الوجداني»، وتعني أن يعيد الفرد تقييمه الوجداني للمحنة بغية استخلاص الانفعال المحتمل حدوثه من تلك المحنة وتقليص تأثيراتها السلبية على نفسيته.

كما كشفت نتائج الدراسة عن أن «المتدينين أكثر قدرة على تحمُّل الآلام البدنية، ويميلون إلى اعتناق روح الثقة في التعامل مع ضغوط الحياة وأزماتها، ولديهم قدرة أكبر على التأقلم معها.

وهذه الأمور مجتمعة تسهم في تخفيف معدلات القلق والاكتئاب لديهم، كما تجعل معدلات الرفاهية الوجدانية لديهم أكبر من غيرهم».

وأسفرت نتائج الدراسة عن أن الأشخاص الذين ينظرون إلى تقلبات حياتهم من منظور معتقداتهم الدينية والروحية يتمكنون من التأقلم مع الأزمات على نحو يمنحهم القدرة على إعادة التقييم الوجداني والنفسي ويُكسبهم كفاءة ذاتية وثقة بالنفس في التعامل مع الضغط العصبي والنفسي، وهو الأمر الذي يقلص حجم التوتر والقلق لديهم بغض النظر عن نوع المعتقد الديني وعن نوع الأزمة أو الضغط النفسي.

محنة «وفاة الأحباء»

واستخدم الباحثون محنة نفسية شديدة تواجه جميع البشر تقريباً، وهي محنة «وفاة الأحباء». واكتشفت الدراسة أن «الأشخاص المتدينين يستعينون بمعتقداتهم الدينية للتأقلم مع موت أحبائهم؛ إذ أن معتقداتهم تلك تجعلهم موقنين بأنهم سيقابلون أحباءهم الذين ماتوا في مكان أفضل لاحقاً وأن المسألة ليست أكثر من فراق موقت، وهذا اليقين الوجداني يمنحهم شعوراً بالتكيف النفسي والقدرة على تجاوز مرارة فقدان أولئك الأحباء بشكل سريع نسبياً وبدون السقوط في مستنقع الاكتئاب المزمن».

البروفيسور فلورين ديلوكس - أستاذ علم النفس بمعهد بيكمان للعلوم والتكنولوجيا المتقدمة التابع لجامعة إيلينوي، والباحث الرئيسي في الدراسة – قال معلقاً على تلك النتائج: «بالنظر إلى الوجود الأزلي المطلق للمعتقدات والممارسات الدينية والروحية منذ فجر تاريخ الحضارات والثقافات البشرية وحتى يومنا هذا، نلاحظ أن أساليب التأقلم النفسي القائمة على المعتقدات الدينية ليست أمراً غريباً ولا جديداً، بل هو موجود منذ عشرات الآلاف من السنين.

والأمر اللافت الذي لاحظناه من خلال دراستنا هذه هو أن الأشخاص المتدينين ينتهجون (دون أن ينتبهوا) الآليات النفسية ذاتها التي يوظفها المعالجون النفسيون لمساعدة مرضاهم على التأقلم مع الشدائد والأزمات النفسية والتغلب على نوبات الكرب الوخيم».

لكن البروفيسور ديلوكس نبّه إلى أنه «صحيح أن الدراسة لاحظت أن المتدينين أكثر قدرة وأسرع في عملية التأقلم، لكن هذا لا يعني أن غير المتدينين يفتقرون إلى تلك القدرة.

فغير المتدينين يستطيعون أيضاً أن يمارسوا درجات من آليات إعادة التقييم الوجداني والتفكير الإيجابي والثقة بالقدرات الذاتية في التعامل مع الشدائد النفسية من دون استحضار العامل الديني».

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي