إيران «تتوهّم» استثمارات أوروبية للالتفاف على الأميركيين
حتى أصدقاء النظام الايراني في العاصمة الأميركية صاروا يعربون عن دهشتهم واستغرابهم من التصعيد غير المفهوم ضد الولايات المتحدة، ما من شأنه إبقاء واشنطن خارج الاتفاقية النووية، وتالياً إبقاء العقوبات على طهران.
في هذا السياق، كتبت كبيرة الباحثين في «مجلس الأطلسي» باربرا سلافين، في تغريدة، أن «على ايران أن تقرر اذا ما كانت تريد علاقة مع الولايات المتحدة أم لا».
وأضافت أن الرئيس جو بايدن هو بمثابة فرصة «إذا ما قررت إيران استغلالها».
وسلافين من أكبر الداعين لانفتاح أميركي تام وشامل على ايران ولعودة العلاقات الديبلوماسية كاملة.
لكن يبدو أن ايران لا تزال غير معنية، ولا تزال ماضية بزيادة نسبة وكمية اليورانيوم المخصب، وفي التصعيد عسكرياً ضد القوات الأميركية في العراق، وضد حلفاء الولايات المتحدة في اليمن، رغم التنازلات الضخمة التي قدمها وزير الخارجية انتوني بلينكن، باصداره لقرار قضى برفع الحوثيين عن «لائحة التنظيمات الارهابية».
التصرفات التي عاكست توقعات كل «أصدقاء ايران»، والعواصم الأوروبية، يبدو أنها استئناف للمحاولة التي بدأتها طهران في العام 2018، والتي كانت تقضي «بفصل أوروبا عن الولايات المتحدة»، ومواصلة التبادل التجاري والاستثماري بشكل يقلّص من فاعلية وأهمية العقوبات الأميركية.
وسبق للمرشد الأعلى السيد علي خامنئي، وفي عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، أن طالب الايرانيين بالبحث عن حلول اقتصادية تؤدي الى تأمين مناعة ضد أي عقوبات اقتصادية، حالية أو مستقبلية، وهو ما يتطلب نهضة اقتصادية إيرانية ذاتية، بالتزامن مع التعاون مع الدول الكبرى التي لم تخرج من الاتفاقية النووية، وهي روسيا والصين والدول الأوروبية الكبرى الثلاث فرنسا وألمانيا وبريطانيا.
وفعلياً، حاول الأوروبيون - على اثر انسحاب ترامب من الاتفاقية النووية في مايو 2018 - إقامة أنظمة مالية قادرة على الالتفاف على العقوبات الأميركية، كان في طليعتها نظام «انستيكس»، الذي يعتمد «نظام المبادلة» من دون المرور بالنظام المالي العالمي، الذي يستند بدوره الى الدولار الأميركي، كعملة عالمية، وتالياً يسمح للولايات المتحدة بتجميد أي حوالات مالية حول العالم.
وسبق لدول غير ايران ان حاولت الالتفاف على النظام المالي العالمي الذي تديره وترعاه الولايات المتحدة. وقام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بالاعلان عن اقامة مصرف «بريكس» بمشاركة روسيا والصين والهند وجنوب افريقيا والبرازيل، وتعهد تقديم مبلغ 50 مليار دولار كرأسمال أولي للمصرف... لكن المصرف تعثر وتلاشى المشروع.
كما حاولت بكين تقديم عملتها كاحتياطي عالمي، وهو ما تطلب كخطوة أولى قيامها برفع القيود على الحركة المالية منها وإليها، فما كان من العملات الصعبة، الا أن بدأت بمغادرة الصين بكميات ضخمة، ما أدى الى انهيار العملة الصينية بشكل كبير في أقل من أسبوع، فعادت عن خطتها، واعادت فرض قيود على خروج العملات الاجنبية منها، وبقيت تعتمد على الدولار كعملة عالمية، واحتياطي مصرفها المركزي، وهو من الأكبر في العالم ويتعدى التريليوني دولار.
من غير المفهوم ما الذي يجعل خامنئي يعتقد أنه قادر على انعاش الاقتصاد الايراني من دون أن تقوم الحكومة الأميركية برفع العقوبات التي جمدت معظم التعاملات المالية الدولية مع ايران.
وسبق للمرشد الأعلى أن أعلن في 2016 - وهو العام الذي تلى توقيع ايران والأمم المتحدة الاتفاقية النووية التى أدت الى رفع معظم العقوبات الدولية عن ايران - «عام اقتصاد المقاومة».
لكن مع اعادة ترامب العقوبات، مضى الاقتصاد الايراني «في رحلة انهيار من دون قعر»، حسب تعبير الاقتصاديين الأميركيين.
ويبدو أنه حتى بعد انتخاب بايدن رئيساً، ما يقدم فرصة للاقتصاد الايراني بعودة أميركا للاتفاقية النووية ورفعها عقوبات ترامب، ما زال خامنئي متمسكاً بنهضة اقتصادية ايرانية بغض النظر عن العقوبات من عدمها.
وأمس، افتتح الأوروبيون، برعاية الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، مؤتمراً لثلاثة أيام في بروكسيل، هدفه حث الشركات الأوروبية على الاستثمار في الاقتصاد الايراني.
ويشارك في المؤتمر عدد من الوزارات الاوروبية والايرانية، والوكالات المالية والاستثمارية، فضلا عن الشركات الخاصة.
والمؤتمر مؤجل من وقت سابق، بعدما أصدرت محكمة أوروبية حكما بالسجن لمدة 20 عاماً على الديبلوماسي الايراني في فيينا أسدالله أسدي بتهمة تخطيط تفجير مؤتمر لمنظمة «مجاهدين خلق» المعارضة الذي كان مقرراً أن ينعقد في باريس.
والمؤتمر لم يكن ممكنا انعقاده من دون موافقة ضمنية أميركية للأوروبيين، بغض واشنطن النظر عن أي استثمارات في ايران من شأنها أن تؤدي الى تحسين وضع الاقتصاد.
أما سبب التغير في الموقف الأميركي، فيمكن تفسيره بربطه بما ورد في البحث التي أصدرته في منتصف يناير«مجموعة الأزمات الدولية»، التي كان يرأسها روبرت مالي، المبعوث الأميركي المسؤول عن الملف الايراني اليوم.
وجاء في البحث أنه يمكن أن تقوم الشركات الأوروبية بدور تحسين وضع الاقتصاد الايراني كبادرة حسن نية أميركية، تقابلها طهران بتراجعات في الملف النووي، ويمكن لهذه الخطوات أن تؤدي في نهاية المطاف لعودة كل من الأميركيين والإيرانيين الى الاتفاقية النووية.
لكن طهران تلقفت حسن البادرة الأميركية ومؤتمر الاستثمارات الاوروبي بالمزيد من التصعيد النووي، وهو ما دفع الأوروبيين أنفسهم للتهديد بالتصويت على«قرار توبيخ» في الوكالة الدولية للطاقة الذرية ضد الحكومة الايرانية. ويمكن لقرار من هذا النوع أن يتحول الى الأساس لنسف الاتفاقية النووية في مجلس الأمن لاحقاً.
وهذا يعني أن الأوروبيين أنفسهم، لا واشنطن، هم من يعبرون عن استيائهم من التصرفات الايرانية، ويهددون بوقف تحسين علاقاتهم المالية والاقتصادية معها.
بكلام آخر، في وقت تعتقد طهران أنه يمكنها الاستناد الى أوروبا لعزل أميركا وتقليص سطوتها المالية العالمية، يبدو أن الاوروبيين لا يرغبون في المضي قدماً في علاقة تعزل الولايات المتحدة، وهو موقف قد يعيد طهران الى التفاوض، لكنه في الوقت نفسه قد يبقي الأمور على ما هي عليه، مع تراجع أوروبي محتمل عن أي انفتاح اقتصادي حتى إشعار آخر.