خلايا أجسامنا... تُفكِّر وتتشاوَر وتنتخِب جماعياً!
خلصت دراسة علمية حديثة أجراها علماء في «معهد فرانسيس كريك» الإنكليزي للأبحاث الطبية إلى اكتشافات مثيرة للاهتمام ومن شأنها أن تمهد الطريق أمام فتح آفاق طبية غير مسبوقة، وهي الاكتشافات التي مفادها أن «خلايا أجسامنا البشرية لديها ذكاء كامن يمنحها القدرة على التفكير والتشاور واتخاذ قرارات جماعية في ما بينها من خلال آلية معقدة شبيهة بعملية التصويت الانتخابي».
وإذ لاحظ العلماء أن كل خلية تشارك في عملية التصويت واتخاذ القرارات من خلال ما تجمعه وتختزنه من معلومات، فإنهم يتوقعون أن يؤدي فهم هذا النوع من الذكاء التفاعلي لدى الخلايا إلى التمكن من ابتكار أدوية وعلاجات أنجع لكثير من الأمراض المزمنة، بما في ذلك مرض السرطان بأنواعه وأمراض القلب ومرض السكري.
فإلى تسليط مزيد من الأضواء على نتائج الدراسة...
سَعَت الدراسة إلى استكشاف الأسرار الكامنة وراء الكيفية التي تنسِّق بها خلايا الجسم البشري مجهوداتها من أجل تكوين أنسجة جديدة، وهي عملية فائقة الدقة والتعقيد حيث إنها تتطلب أن تتفق تلك الخلايا على قرار جماعي في شأن الوظائف المحددة التي ينبغي أن يقوم به كل نوع من الخلايا، مع التأكد في الوقت نفسه من قيام عدد مناسب من الخلايا بكل وظيفة.
وفي سياق دراستهم التي نُشرت أخيراً في مجلة «فيلوسوفيكل ترانزآكشن» التابعة للجمعية الطبية الملكية البريطانية، وجد الباحثون أنه عندما تنمو أوعية دموية جديدة، فإن الخلايا المعنية بالأمر تتخذ قرارات جماعية في ما بينها عن طريق استخدام آلية أطلقوا عليها اسم «الإدراك النشط»، وذلك بعد أن اكتشفوا أنها تنشأ من خلال قيام كل خلية على حدة بالتحرك والاستطلاع كي تجمع معلومات تساعدها على فهم أفضل للبيئة المحيطة بها وبالتالي اتخاذ «قرار مستنير» من خلال «الإدلاء بصوتها».
ولتوضيح الصورة أكثر، يُشبِّه الباحثون ذلك الأمر بأن تدخل غرفة مظلمة وغير مألوفة بالنسبة لك حيث تمد ذراعيك لتتحسس الجدار بحثاً عن مفتاح الإضاءة كي تتمكن من تشغيله لتتمكن من رؤية الأشياء. وفي حالة خلية الجسم البشري، فإنها تمد «أصابع» استشعارية خاصة لتتحسس بها طريقها في البيئة المحيطة. وهذا التحسس يسمح للخلايا مجتمعة بأن تقوم بعملية «انتخابية» شبيهة بالإدلاء بالأصوات لاختيار الخلية التي تستشعر معظم الإشارات من البيئة المحيطة بسرعة لتكون هي «الخلية الزعيمة»، حيث تتولى قيادة عملية بناء النسيج المطلوب بينما تعمل بقية الخلايا وفقا لأوامرها.
وعن ذلك قالت الدكتورة «كاتي بنتلي» التي أشرفت على الدراسة وتدير مختبر السلوك الخلوي التكيفي في معهد فرانسيس كريك: «في معظم مراجع علم الأحياء، يتم تنفيذ العمليات خطوة بخطوة وبترتيب معين. فمثلا: الجزيء A يرتبط بالمستقبِل B فيؤدي ذلك إلى نشوء الحركة C. أما في ما يتعلق بعملية اتخاذ هذا القرار الجماعي الحيوي بين الخلايا البشرية، تحدث تلك الخطوات جنباً إلى جنب وبالتزامن مع بعضها البعض وليس بشكل تتابعي، حيث تتحرك الخلايا باستمرار وفي الوقت نفسه تقرر في ما بينها كيفية تكوين وبناء النسيج الجديد».
وتابعت موضحة: «هذه القدرة على توظيف المعلومات المستقاة من الحركة الاستكشافية بالتزامن مع اتخاذ القرار هي شيء نلاحظه ونلمسه عادة في تصرفات وسلوكيات الكائنات الحية ذات الذكاء كالإنسان والقردة العليا وحتى الطيور والأسماك، لذا فإن إدراك كيف تلعب هذه القدرة دورها على مستوى التفاعلات بين الخلايا يمكن أن يكشف لنا عن الجوانب الأساسية للوظيفة البيولوجية التي تجعل خلايا معينة تتحرك جماعياً وتتصرف بطريقة ذكية لبناء نسيج معين».
وعن الفائدة التي يمكن الحصول عليها من وراء ذلك قالت: «إن فهمنا واكتشافنا لأسرار آليات تلك العملية على مستوى الخلايا سيسمح لنا بأن نصمم ونطور علاجات جديدة لإعادة الاتزان إلى تلك الآليات إذا اعتراها خلل، ومن شأن هذا أن يخلق ثورة على صعيد معالجة كثير من الأمراض العضوية المستعصية».
الخلايا الزعيمة
وفي سياق الإثبات العملي لمفاهيم الدراسة، ركز الباحثون في دراستهم على الآليات التي تتم بين الخلايا خلال عملية تكوين أنسجة الأوعية الدموية في الجسم، وهي العملية التي تعتبر أساسية لنمو وترميم بقية الأنسجة السليمة في الجسم.
واكتشف الباحثون أن الذي يحصل في بداية هذه العملية هو أن بعض الخلايا الموجودة على طول السطح الخارجي للوعاء الدموي تتحول إلى «خلايا زعيمة» بعد فوزها في «التصويت الانتخابي» بين الخلايا، ثم تنبُت من أسطح تلك الخلايا الزعيمة نتوءات طويلة تسمى «الأهداب الخيطية»، وتكون تلك الأهداب بمثابة «القاطرة» التي تنطلق لتجر وراءها آلية تكوين أنسجة وعاء دموي جديد.
وسيواصل الباحثون جهودهم في هذا الاتجاه الجديد سعياً إلى استكشاف العديد من الجوانب المتعلقة بالتوقيتات والتفاعلات الخلوية التي تنطوي عليها هذه العملية الفائقة التعقيد، بما في ذلك الكيفية التي تقرر بها خلايا الأوعية الدموية انتخاب عدد معين من بينها لتصبح «خلايا زعيمة».
ومن خلال استخدام تقنية المحاكاة الحاسوبية وإجراء دراسات مختبرية على أجنة أسماك الزرد، لاحظ الباحثون أن الخلايا المتجاورة المشاركة في العملية تتبادل الرسائل في ما بينها حول نتائج عملية التصويت، وذلك من أجل الاتفاق على الخلايا التي فازت وتحديد دور كل خلية في مهمة بناء النسيج الجديد.
وختمت الدكتورة بنتلي بالقول: «إن نتائج هذه الدراسة لم تمنحنا فقط نظرة من زاوية غير مسبوقة على عملية انتخاب الخلايا الزعيمة، بل فتحت لنا الباب أيضاً على عدد لا حصر له من الاتجاهات البحثية الجديدة والمثيرة. وسنستكشف بعض هذه الأسئلة المهمة في أعمالنا البحثية المستقبلية بهدف تفسير وفهم سلوكيات خلايانا بشكل أفضل».