لم يعد سرّاً أن أجواء التصعيد تسود في المنطقة، خصوصاً أن إيران على عجلة من أمرها في فرض أجندتها على إدارة جو بايدن التي تميل للعودة إلى إحياء الاتفاق في شأن ملفّها النووي الموقّع في العام 2015 في ظلّ شروط معيّنة.
تكمن المشكلة في أنّ إيران غير مستعدة لقبول مثل هذه الشروط وتعتقد أن على الإدارة الأميركية التزام الاتفاق ورفع كلّ العقوبات التي فرضتها إدارة دونالد ترامب على «الجمهورية الإسلامية».
من مصلحة المنطقة والاستقرار فيها حصول تراجع إيراني وعودة طهران إلى لغة العقل والتعقّل.
يبدأ ذلك بإبداء استعدادها لإعادة النظر في سلوكها خارج حدودها وفي برنامج الصواريخ الذي تطورّه.
هل هذا ممكن؟
الجواب لا كبيرة.
يكفي لتأكيد ذلك العودة إلى تاريخ العلاقة بين دول المنطقة من جهة وإيران منذ العام 1979، تاريخ انتصار «الثورة الإسلامية» من جهة أخرى.
لا يمكن لإيران أن تتغيّر في أي شكل.
يعود ذلك إلى أنّ نظامها قائم على تصدير أزماته إلى خارج حدود «الجمهورية الإسلامية».
يشكّل تصدير الأزمات علّة وجود النظام والمبرّر لاستمراره.
كانت الدول العربية الخليجية منذ العام 1979، ولا تزال، في حال من الدفاع عن النفس مع إيران التي آمن النظام فيها بـ«تصدير الثورة» وعمل من أجل ذلك.
خاضت إيران، مباشرة بعد قيام «الجمهورية الإسلاميّة» التي أسسها آية الله الخميني، حرباً طويلة مع العراق استمرّت ثماني سنوات.
من بدأ الحرب كان العراق حيث اعتقد صدّام حسين أن مثل هذا الهجوم الواسع الذي شنّه على إيران سيردعها وسيؤدّي إلى خلق مزيد من المشاكل الداخلية فيها.
خدمت الحرب الخميني من زاويتين.
أحيت الروح الوطنية الفارسية لدى المواطنين أوّلاً ومكنت النظام من إبعاد الجيش عن المدن إلى جبهات القتال ثانياً.
كان الجيش الإيراني يشكّل الخطر الأوّل على النظام الجديد الذي باشر بناء الجيش الخاص به، أي «الحرس الثوري».
في المحصلة، عرف النظام في «الجمهورية الإسلامية» كيف يستفزّ سياسياً ريفياً يمتلك عقلاً بدائياً مثل صدّام حسين.
في الواقع، خاض العراق، بدعم خليجي، بين 1980 و 1988 حرباً دفاعية خدمت النظام الإيراني من حيث يدري أو لا يدري...
لم يسقط العراق، كما كان يعتقد الخميني الذي كان يخطط لاختراق المنطقة من خلاله.
حقّق العراق شبه انتصار على إيران ولم يسقط أمام إيران الّا بعد الاجتياح الأميركي في العام 2003.
لا يمكن تجاهل أنّ دول الخليج العربي وقفت في تلك الحرب (حرب 1980- 1988) مع العراق بطريقة أو بأخرى، نظراً إلى أن سقوط العراق كان يعني سقوطها.
وحدها سلطنة عُمان، ولأسباب خاصة بها اتخذت موقفاً وسطياً.
ولكن عندما احتاج العراق، في بداية الحرب مع إيران، إلى ذخيرة من نوع معيّن موجودة لدى مصر امتنع الاتحاد السوفياتي عن بيعها له، استعان صدّام بالسلطان قابوس كي يتوسط له مع الرئيس أنور السادات.
لبّى السادات طلب العراق على الرغم الدور الذي لعبه صدّام حسين في عزل مصر عربيا، إثر توقيعها اتفاق سلام مع إسرائيل، وذلك بعدما تلاعب به حافظ الأسد في العامين 1978 و 1979.
لا مجال لتعداد كلّ الفصول التي توالت منذ فبراير من العام 1979 مع عودة الخميني إلى طهران والتي كشفت طبيعة المشروع التوسّعي الإيراني، الذي قام بين ما قام عليه، على استخدام الميليشيات في هذا البلد العربي او ذاك من جهة وإثارة الغرائز المذهبية من جهة أخرى.
لعلّ استغلال موسم الحج في المملكة العربيّة السعودية، بهدف «تسييسه» يعطي فكرة عن المشروع الإيراني الذي بقيت السعودية هدفاً له في كلّ وقت.
لم تتردّد إيران في كلّ مناسبة إلّا وأكدت أنّها الوصيّة على العالم العربي وعلى الخليج.
خطفت القضية الفلسطينية والقدس وتاجرت بهما ولا تزال تفعل ذلك.
فوق ذلك كلّه زايدت على المزايدين العرب في هذا المجال.
لم يحل ذلك كلّه دون وصول النظام الذي أقامه الخميني إلى ساعة الحقيقة.
ماذا تعني ساعة الحقيقة؟
تعني أمرين.
أوّلهما أن إيران في موقع الهجوم منذ العام 1979.
مازالت في هذا الموقع إلى يومنا هذا حتّى في مكان مثل اليمن الذي حولت شماله إلى قاعدة اطلاق صواريخ في اتجاه الأراضي السعودية.
أمّا الأمر الثاني، الذي تعنيه ساعة الحقيقة، فهو أن إيران لم تستطع في 42 عاماً تقديم نموذج يمكن الاقتداء به على أيّ صعيد كان وفي أي منطقة من العالم.
لم تقدّم سوى الخراب، أكان ذلك في إيران نفسها أو في سورية والعراق ولبنان واليمن.
لعلّ ما آل إليه لبنان الذي تحوّل إلى دولة فاشلة، بفضل سلاح «حزب الله» وممارساته التي أوصلت ميشال عون إلى موقع رئيس الجمهورية، يعطي فكرة عن البضاعة التي ليس لدى إيران ما تصدّره غيرها.
هناك الآن إدارة أميركية جديدة برئاسة جو بايدن تسعى إيران إلى التفاوض معها من أجل رفع العقوبات التي فرضتها إدارة دونالد ترامب على «الجمهورية الاسلاميّة».
هناك أيضاً كلام كثير عن استعداد قطري للتوسط بين إيران ودول الخليج الأخرى وذلك في ضوء التطورات الأخيرة التي طرأت على العلاقات بين الدوحة وعواصم عربيّة أخرى مثل الرياض وأبو ظبي والمنامة والقاهرة... وهناك كلام إيجابي، أقلّه ظاهراً، يصدر عن هذا المسؤول الإيراني أو ذاك عن ضرورة ابعاد القوى الخارجية عن المنطقة... وانفتاح على الجميع.
كلام كثير وأفعال قليلة بعدما اقتربت ساعة الحقيقة وتبيّن أن العقوبات الأميركية أدّت مفعولها وأنهكت الاقتصاد الإيراني. كلّ ما هو مطلوب في نهاية المطاف جواب عن سؤال واحد: هل إيران مستعدة لتكون دولة طبيعية بين دول المنطقة؟ في غياب الجواب الصريح عن مثل هذا السؤال الذي صار عمره 42 عاماً، لا مجال لوساطات ولا إلى تنظير من أيّ نوع.
في النهاية، كما في البداية، إنّ أيّاً من جيران إيران البعيدين والقريبين لم يعتد عليها ولم يحاول التدخّل في شؤونها.
كلّ ما في الأمر، هل يستطيع النظام الإيراني تغيير جلده بدءاً بالاعتراف بأنّ على «الجمهورية الإسلاميّة» الاهتمام بشؤون الإيرانيين قبل إعطاء دروس في الوطنيّة للخليجيين والعراقيين والسوريين واللبنانيين واليمنيين.