الانقسام في الولايات المتحدة مسموح حول السياسات ومرفوض حول أسس الدولة ونظامها الديموقراطي
فوضوية ترامب أخرجته من البيت الأبيض مثلما أدخلته
- ترامب صمّم فترة حكمه بنفسه... لم يهتم كثيراً بالمضمون وسلّط اهتمامه على الشكل
- مثل سياسته الداخلية الفوضوية كانت سياسته الخارجية
- حاول استخدام «تويتر» لتغيير الحقائق... وحكم عن طريق التغريدات
كل من يعرف الولايات المتحدة، كان يعرف أن انتخاب دونالد ترامب رئيساً، قبل أربعة أعوام، لم يعكس أميركاً سياسياً ولا شعبياً، بل كان عبارة عن «فلتة شوط»... الجمهوريون الذين أعجبهم وصول ترامب الى السلطة اعتقدوا أن بإمكانهم الإفادة من رئاسته، وتصوروا أنه - لحظة دخوله البيت الأبيض - سيستبدل أسلوبه التهريجي، بأسلوب رئاسي يتناسب ومقام الرئاسة. لكن ترامب لم يتغير، وان تغير، فلساعات معدودة، مثل أثناء ادلائه بخطابه الأول عن حال الاتحاد، قبل أن يعود الى طبيعته الفوضوية بسرعة قصوى.
فوضوية ترامب حرمته من أي انجازات تذكر، باستثناء إقراره قانون تخفيضات ضرائبية ساهمت في دفع النمو الاقتصادي والدين العام معا.
في أول سنتين، كان ترامب الجمهوري يتمتع بدعم غالبية جمهورية في الكونغرس بغرفتيه.
مع ذلك، وبسبب فوضويته وشعبويته التي كان يطلق بموجبها مواقف متضاربة لارضاء مؤيديه، لم ينجح في استصدار أي تشريعات تذكر، ولم ينجح في استبدال قانون الرئيس السابق باراك أوباما للرعاية الصحية، ولم ينجح في إقرار قوانين لتنظيم الهجرة، أو لتمويل الحائط الذي وعد به على الحدود الجنوبية مع المكسيك.
وكان كلّما ظهر ضعف ترامب تشريعياً وإدارياً، أمعن في خطابه الشعبوي الذي يحرض به البيض الأميركيين ضد غير البيض، أو يحرّض فيه الأميركيين ضد شعوب العالم.
ومثل سياسته الداخلية الفوضوية، كذلك كانت سياسة ترامب الخارجية: يتوعد إيران برد قاسٍ، ولا يرد على إسقاطها مسيرة أميركية أو قصف منشآت نفطية في السعودية.
ثم يفاجئ القريب والبعيد بقتله قائد «فيلق القدس» الإيراني قاسم سليماني.
في يوم يقول إن الخليج أقرب حلفاء أميركا، وفي يوم ثان يُعلن أنه يقدم حماية عسكرية «مدفوعة الثمن».
في يوم يصادق رئيس بكين، وفي يوم آخر يشتم الصين ورئيسها وكل شعبها.
ترامب صمم فترة حكمه بنفسه. لم يهتم كثيراً بالمضمون، بل سلّط اهتمامه على الشكل: أراد إقامة عرض عسكري بمشاركة الدبابات داخل العاصمة الفيديرالية، واستخدم البيت الأبيض كخلفية لحملته الانتخابية، مخترقاً بذلك تقاليد وأعرافا أميركية تحظر استخدام المنصب أو المباني الحكومية في الحملات السياسية.
وساعد ترامب في فوضويته حسابه على موقع «تويتر»، فحكم عن طريق التغريدات... وزراء عينهم وطردهم من دون علمهم عبر تغريدات.
وأدت فوضويته الى توالي ثلاثة وزراء دفاع، وثلاثة وزراء عدل، ووزيري خارجية، وأربعة مستشاري أمن قومي، وأربعة رؤساء موظفي البيت الأبيض، وكل ذلك في غضون أربع سنوات فقط.
كما حاول ترامب استخدام «تويتر» لتغيير الحقائق.
ومن يعرف الرئيس السابق، يعرف أنه لا يعترف بأنه أعلن افلاسه عدد من المرات في حياته كرجل أعمال، اذ هو يصر أن افلاساته كانت عبارة عن تكتيك مقصود.
كذلك رفض الاعتراف بخسارته الانتخابات.
لكن صبر الأميركيين، بمن فيهم قاعدة الجمهوريين، نفد، فعاقبوا ترامب بالتصويت ضده في الانتخابات.
وعندما أمعن في رفضه النتائج، انخفضت شعبيته أكثر وتسبب بخسارة حزبه الغالبية في مجلس الشيوخ.
ثم عندما أمعن في رفض النتائج وحرّض مؤيديه على غزو الكونغرس، انخفضت شعبيته لتصبح الأدنى في تاريخ رؤساء أميركا.
أما زعماء الحزب الجمهوري، مثل السناتور ميتش ماكونيل في مجلس الشيوخ أو كيفن ماكارثي في مجلس النواب، ومعهما نائب الرئيس مايك بنس، فهم من المخضرمين في السياسة ممن يقرأون استطلاعات الرأي جيداً ويفهمون مزاج قاعدتهم.
هكذا، منذ انتخابات الثالث من نوفمبر، انعزل ترامب وحيداً في البيت الأبيض، وصار بنس الرئيس الفعلي، باستثناء استخدام ترامب صلاحياته الرئاسية لمنح عفو خاص لمحكومين من الأزلام والمحاسيب.
هكذا، لم يدخل ترامب نادي الرؤساء السابقين ليحتفل بالانتقال الديموقراطي للسلطة الى خلفه بايدن.
خرج وحيداً من البيت الأبيض، وكان ينوي أن يقيم لنفسه احتفالاً وداعياً تشارك فيه المقاتلات، لكن العسكر لم يعيروا طلبه الاهتمام، واكتفوا باعارته فرقة أناشيد عسكرية، ولم يتجاوز حضور المودعين مئات قليلة، في وقت كان يتمنى حضور آلاف تظهر شعبيته.
أمام مبنى الكونغرس، الذي تعرض على أيدي مناصري ترامب لهجوم لا سابق له منذ اقتحام البريطانيين واشنطن في العام 1814، وقف أركان الديموقراطية الأميركية، الرؤساء السابقون من الحزبين، قضاة المحكمة العليا ورئيسها، المشرعون، واحتفلوا بديموقراطيتهم.
وحده ترامب لم يكن جزءا من المشهد الأميركي، بل آثر أن يبقى وحيداً مع قاعدة شعبية أظهرت كل استطلاعات الرأي أنها تتقلص باستمرار.
أما بايدن، فأدلى بخطاب قليله سياسة وكثيره كلام عن أهمية الديموقراطية الأميركية، والدستور، والمؤسسات، ودعا الى الالتفاف حول هذه الثوابت وردم الهوة بين الحزبين والأعراق والفئات.
على أن المرحلة المقبلة ستتطلب ما هو أكثر بكثير من خطاب رئاسي جامع، فترامب سلّم بايدن بلاداً توفي فيها ما يزيد على 400 ألف أميركي بفيروس كورونا المستجد، 100 ألف منهم منذ منتصف ديسمبر الماضي فقط، أي بمعدل ثلاثة آلاف يومياً، وهو ما يتطلب وضع خطة وطنية شاملة، بعدما تعثر ترامب في كل مراحل مواجهة وباء «كوفيد - 19»، وكان آخرها توزيع اللقاح، اذ لم تشترِ الحكومة الفيديرالية جرعات كافية، واكتفت باعطاء حكومات الولايات كميات حتى تقوم الأخيرة بتوزيعها.
ثم ان أميركا تحتاج الى جرعة دعم اقتصادي بسبب الوباء الذي أدى الى تعثر قطاعات واسعة، وهو ما دفع بايدن الى العمل على طلب تريليوني دولار من الكونغرس لرفد الاقتصاد.
ولم يسهم الجمهوريون في تسهيل مهمة بايدن.
في ولايات الرؤساء الثلاثة السابقين، صدف دخول كل منهم الى البيت الأبيض مع سيطرة حزبه على الغالبية في مجلس الشيوخ، وهو ما سهّل المصادقة على تعيينات حكومية وتشريعات.
في حالة بايدن، لم يتسلم الديموقراطيون الغالبية في مجلس الشيوخ الى ما بعد قسم بايدن بساعات، بسبب التأخير الذي فرضته الدورة الثانية لانتخابات ولاية جورجيا، وهي التي منحت الديموقراطيين الغالبية.
هكذا، على عكس أسلافه الذين دخلوا البيت الأبيض وكانت المصادقة على أركان ادارتهم - مثل وزراء الخارجية والدفاع والأمن القومي والعدل والخزانة - ناجزة، بدأت إدارة بايدن من دون أي وزير أصيل، وواصلت ادارة الوزارات الرئيسية حفنة من الموظفين الذي يعملون بالوكالة.
الولايات المتحدة رمت ترامب خارجاً بعد ولاية واحدة، في إشارة واضحة على رفضها أسلوبه الشعبوي التحريضي والفوضوي في الحكم، وتسعى للعودة، بقيادة بايدن والديموقراطيين، الى سابق عهدها، حيث الانقسام مسموح حول السياسات، ومرفوض حول أسس الدولة ونظامها الديموقراطي، وهو ما لم يفهمه الرئيس السابق وآثر الاصطدام به لاعتقاده أن شعبيته كاسحة، لكنه اصطدام كلف ترامب الرئاسة وشعبيته في الوقت نفسه.