كان فولتير عالماً يدرك أن قيادة الجنس البشري ستكون للدول التي تعرف كيف تقرأ كما قال ذلك بنفسه، لكنه لم يعرف أن أول آية نزلت في الذكر الحكيم كانت اقرأ... وهي دعوة للقراءة والتفكر والتعلم.
بضاعتنا ردّت إلينا كما يقولون... فلماذا يسود إذاً الجهل وسوء الفهم وضيق الأفق، لماذا يُراد لشعوبنا أن تكون دوماً في مؤخرة الركب... فبحسب تقرير إحدى المؤسسات البريطانية التي تقيس معدل القراءة، فإن المعدل العربي لساعات القراءة سنوياً 35.24 ساعة، فيما بلغ المتوسط العربي لعدد الكتب المقروءة سنوياً أكثر من 16 كتاباً. ومع كامل التقدير لأي مؤسسة إحصائية، كتلك المذكورة آنفا فإني أتفق مع صلاح فضل، في صعوبة الحصول على بيانات دقيقة لحجم إنتاج الكتب أو حتى حجم الاطلاع الفردي!
وعلى كل حال؛ يبدو أن المواطن العربي لديه جلساء وأصدقاء آخرين غير الكتاب، وهل هناك جليس وأنيس ومستشار أطيب وأصدق من الكتاب: أعز مكان في الدنى سرج سابح/ وخير جليس في الزمان كتابُ.
فماذا نقرأ، وكيف نقرأ، ولماذا نقرأ؟
أولاً لا فرق عندي بين من لا يهتم بالقراءة والأمي الذي لا يستطيعها، فكلاهما خارج الفعل الإنساني، وكلاهما وقود التخلف الذي تستغله كل قوى الفساد في الأرض لإشعال فتيلها، لكن الدول المحترمة تعد برامج متنوعة لتشجيع القراءة ولتنتشل شعوبها من براثن التخلف والرجعية، القراءة للجميع في كل مكان وزمان هي اللبنة الأولى لبناء أي مجتمع ينشد الكرامة والحرية والنمو، كتلك التي قامت بها إحدى الجمعيات التطوعية في بعض الدول من تشجيع القراء على ترك الكتاب المقروء في مقهى أو نادٍ أو مطعم، مع الإشارة إلى تركه بعد الانتهاء من قراءته، ليتاح قراءته للآخرين فيما بعد.
أعجبتني همة أنيس منصور الكاتب الكبير رحمه الله، وقد كان بيته على النيل مباشرة، إنه كان يقوم من الرابعة فجراً ليقرأ ويكتب حتى العاشرة، وأنه ما جلس ليرى النيل قط منذ عشرين عاماً في هذا الوقت! وفي المحروسة قامت السيدة سوزان مبارك حرم الرئيس المصري الراحل حسني مبارك - رحمه الله - بالدعوة إلى نشر الثقافة، ودعم طباعة الكتب والكتيبات بثمن زهيد، لتكون في متناول الشعب تحت عنوان «القراءة للجميع».
ويفرّق بعض الخبراء في شؤون الثقافة بين الكتيب، من خلال عدد الصفحات التي لا تصل إلى 50 صفحة، والكتاب الذي يتجاوز ذلك بكثير. وفي رأيي أن القارئ الحصيف، هو من يقرأ شهرياً على الأقل كتابين أحدهما في التخصص والآخر في الميول، وما يحب من مختلف ألوان المعرفة.
وويل لمن يقرأ دون تفكير؛ فالقراءة العمياء هي فقط لجمع المعلومات، لكن الأهم هو إعمال العقل والتدبر والتفكر، حتى يكون الإنتاج مجزياً. وجميل ما تسعى إليه رابطة الأدباء الكويتية، وبجهد مشكور تحت رعاية الزملاء الأكارم بفتح معارض دورية داخل الرابطة للكتب المستعملة. فالقراءة روح تسري في جوانح الإنسان. تنير عقله وطريقه. بل هي من تشكّل ذاته وهويته ثم سلوكه. ومن حسن حظي أني ولدت في مكتبة وعشت عمراً من صباي بين أرففها.
كانت مكتبة والدي تعج بمئات الكتب من كل ألوان المعرفة والفنون. بمجرد النظر إلى أطيافها وأغلفتها، كانت تحيطني بالأمن والسكينة. لم أكن أدرك وقتئذ تفسيراً لهذا الشعور الغريب، حتى تجاوزت المرحلة الثانوية؛ حينها بدأت غشاوة الطفولة تنقشع وتتشكل صور النسق الثقافي والفكري، لتبرز شيئاً من معالمه.
بعد تحرير الكويت من الغزو الغاشم مباشرة، عادت مشاهد الأمس تتقدم أمام ناظري؛ أذكر أن أول كتاب وقعت عليه عيناي في مكتبة والدي، وقد توشّح بدخان التحرير من حريق المكتبة الآثم، وهو «البداية والنهاية» أحد روائع ابن كثير؛ وقصص العرب؛ وسلسلة أبطال العرب للشباب... وما زلت إلى الآن احتفظ بالكتب وبسواد الدخان يلف أعناقها الشامخة جميعاً، خصوصا كتب الأدب والشعر، ولست أدري لعل سواد الدخان هو ألم يرافق المعرفة والثقافة في بلاد العرب عموما!
تعلمت من تلك المرحلة أن العلم نتاج القراءة والاطلاع المستمر؛ إن أعطيته كلك أعطاك بعضه. يزيد بالإنفاق منه وينقص إن بخلت به. فهو يعيش بالتحصيل وينمو بالتوصيل.