الأميركيون يسدلون الستار على حقبته... وصورته تلطّخت إلى الأبد
ترامب أنهى نفسه... و«عَطَبَ» حزبه الجمهوري
من خارج الولايات المتحدة، بدت البلاد وكأنها تنغمس في حرب أهلية في طريقها للقضاء على ديموقراطيتها. لكن من داخل واشنطن، كان واضحاً أن العملية التي شنتها ضد مبنى الكونغرس، «ميليشيا من المتطرفين البيض»، مستندة الى تحريض الرئيس دونالد ترامب ومستفيدة منه، كان مصيرها أن تنتهي، وأن تنهي معها حقبة ترامب، وأن تلطخ صورته في كتب التاريخ الى الأبد.
العملية بدت، منذ دقائقها الأولى، مصممة لعدسات التلفزة. لساعات، شعر ترامب أنه عاد الى دائرة الأضواء، وأن الأميركيين وكل العالم ينتظرون كل كلمة يقولها عبر مواقع التواصل الاجتماعي. بدا وكأنه نجم برنامج على «تلفزيون الواقع»، لكن الواقع كان مختلفاً جداً، فليس هناك سقف واضح للتحرك، أو متى ينحسر، أو ماذا يريد.
تلة كابيتول هي مجمع من سبعة مبانٍ، ثلاثة منها الى الجنوب مخصصة لمجلس النواب وجلسات لجانه ومكاتب أعضائه، وثلاثة منها في الشمال، للشيوخ، وبين صفي المباني يقع مبنى كابيتول الذي تقع فيه ثلاث قاعات للجلسات العامة، واحدة للمجلس بغرفتيه، وثانية لجلسات مجلس الشيوخ، وثالثة لجلسات مجلس النواب.
المتظاهرون لم يستهدفوا المباني الستة، بل تجمهروا أمام حواجز الشرطة التي كانت تحيط بمبنى كابيتول، ثم اقتحموا خطوط الشرطة، وبدأوا بتسلق السور والجدران حتى وصلوا الى الشبابيك والأبواب من الخارج، فحطموا الزجاج واقتحموا المبنى ليجدوه خالياً تماماً إلا من الشرطة. التظاهرة كانت وصلت المبنى بعدما انفرط عقد الجلسة العامة وعقدت كل من الغرفتين جلستها لمناقشة اعتراض بعض الجمهوريين على نتائج انتخابات أريزونا.
لكن مع اقتراب المتظاهرين، سارعت شرطة الكابيتول الى إخلاء كل المشرعين، ثم العاملين في المبنى، وذلك عبر مترو الانفاق الخاص الذي يربط مبنى كابيتول بمباني الشيوخ. ومن لا يعرف دهاليز المجمع، يجد صعوبة كبيرة في تعقب من يحاولون الفرار منه.
بعد سيطرة متظاهرو ترامب على مبنى كابيتول الخالي الا من رجال الشرطة، عاثوا فيه فسادا، ودخلوا مكتب رئيسة مجلس النواب الديموقراطية نانسي بيلوسي وأحدثوا فيه بعض الخراب. شرطة الكابيتول، التي لم تكن لتقدر على التصدي لآلاف المتظاهرين، طلبت الدعم، فاتصلت عمدة المدينة موريال بوزارة الدفاع وطلبت 500 عنصر من الحرس الوطني للمؤازرة.
ولأن مقاطعة كولومبيا، حيث العاصمة، مقاطعة فيديرالية لا ولاية، يتطلب نشرها الحرس الوطني موافقة الحكومة الفيديرالية، اذ ذاك أوعز ترامب للبنتاغون بالإحجام عن الموافقة على طلب العاصمة، وهو ما أخّر عملية إخلاء مبنى الكونغرس، وما هدد بعدم المقدرة على تطبيق حظر التجول الذي أعلنته العمدة مع حلول الليل.
وأمام ضعف المقاطعة، أعلنت الولايتان المجاورتان ميريلاند وفرجينيا، إرسالهما ألفي عنصر من الحرس الوطني لدعم شرطة الكابيتول، وكذلك أعلنت ولاية نيويورك. وكانت الخطة التي عمل عليها نائب الرئيس مايك بنس، الذي كان مشاركاً في الجلسات وتم إخلاؤه، بالاشتراك مع بيلوسي، تقضي بإخلاء المبنى، وهو ما حصل وشارك فيه مكتب التحقيقات الفيديرالي (أف بي آي)، وقوة البحث عن عبوات وعن أدوات تجسس. ثم أعلنت بيلوسي أن الجلسة سيتم عقدها مساء اليوم نفسه لإنجاز عملية المصادقة على نتائج الانتخابات.
ومع مرور الساعات، بدأ الجمهوريون ينفضون عن ترامب، كان في طليعتهم نائبه بنس، الذي توعد مقتحمي المبنى بالعقاب عبر المحاكم، ومعه زعيم الغالبية الجمهورية ميتش ماكونيل، والذي سيتحول الى زعيم الأقلية بعد فوز الديموقراطيين بمقعدي ولاية جورجيا في الدورة الثانية من الانتخابات، أول من أمس.
وانضم الى بنس وماكونيل في ادانة اقتحام الكونغرس، الرئيس السابق جورج بوش، ومع الزعماء الثلاثة ظهرت قناة «فوكس نيوز» الاخبارية اليمينية، التي راحت تهاجم ترامب وانصاره.
أما التحول الأبرز فكان على لسان زعيم الأقلية الجمهورية في مجلس النواب كيفين ماكارثي، وهو كان من الموقعين مع 125 من زملائه النواب، على العريضة التي طالبت المحكمة الفيديرالية العليا بإبطال نتائج ست ولايات وقلبها لمصلحة ترامب. لكن أمام تحريض ترامب واقتحام متظاهريه، أصدر تصريحات سلبية بحق ترامب، واتصل به وسعى للضغط عليه لاصدار تغريدة يدعو فيها جماعته الى الانسحاب من مبنى الكابيتول. لكن ترامب رفض طلب ماكارثي، واكتفى بتغريدة طلب فيها من مناصريه التزام السلمية وعدم التعرض للشرطة.
ومع حلول المساء، عقد أعضاء حكومة ترامب مشاورات للتباحث في إمكانية التصويت على خلع الرئيس، بموجب التعديل 25 من الدستور، بحجة «ضعف في القدرات العقلية للرئيس تمنعه عن ممارسة مهامه بشكل مقبول»، وهو ما يتطلب موافقة بنس، الذي يصبح رئيساً للأيام الـ 12 المتبقية في ولاية ترامب. وفي الوقت نفسه، بدأ بعض كبار العاملين في البيت الأبيض يعلنون استقالاتهم من إدارة ترامب.
وفي الجلسة التي انعقدت مساء، بدا تراجع الجمهوريين واضحاً، فسحب بعض الشيوخ اعتراضهم على التشكيك بنتائج الولايات الست. حتى السناتور المخضرم ليندسي غراهام، صديق ترامب، عارض التشكيك وطلب من الكونغرس المصادقة على انتخاب بايدن ووضع حد للانقسام. وقال: «أنا سافرت العالم مع جو بايدن، وصليت ليخسر الانتخابات، ولكنه فاز، وهو رئيسنا الشرعي، هو وكمالا هاريس انتخبا شرعيا، وسيصبحان رئيسا ونائب رئيس يوم 20 يناير».
هكذا، وفي أقل من 12 ساعة، راح انهيار الحزب الجمهوري وابتعاده عن ترامب يجري بشكل واضح، وهو ما حمل الرئيس الأميركي على الطلب الى مناصريه التراجع، رغم أنه أغدق عليهم المديح، وقال لهم «أحبكم»، وبرر فعلتهم بالقول إنها كانت نتاج الاحباط الذي أصابهم بسبب سرقة الانتخابات منهم.
الانهيار الذي فرضه ترامب على الحزب الجمهوري، كان بدأ قبل اجتياح مناصريه الكونغرس، خصوصاً منذ رفضه الاعتراف بهزيمته الانتخابية أمام الرئيس المنتخب جو بايدن بعد 3 نوفمبر. عشية الانتخابات، أظهر مركز استطلاعات الرأي «راسموسن»، وهو من المحسوبين على اليمين الجمهوري وممن شارك ترامب نتائجه في بعض تغريداته، أن شعبيته كانت 52 في المئة.
لكن عشية انتخابات جورجيا هذا الأسبوع، كان تأييد ترامب 47 في المئة، أي أنه تراجع خمس نقاط مئوية، وهو ما بدا جليا، اذ ان انتصار الديموقراطيين على الجمهوريين كان سهلاً في الولاية الجمهورية تقليديا.
قيادة ترامب أدت الى خسارة الجمهوريين، الكونغرس بغرفتيه والبيت الأبيض، في غضون سنتين، وحطمت الحزب وأدت الى انقسامات داخله، ويبدو أن كبار قادته أدركوا أن الوقت حان للخروج من حقبة ترامب، خصوصا أن الأرقام الشعبية تشير الى انهيار التأييد له، وهو ما يحرمه فرصة الانتقام ممن يمشوا عكس مشيئته، على ما دأب على فعله على مدى السنوات الأربع الماضية.
لم يؤد اقتحام «الميليشيا البيضاء» الموالية لترامب الكونغرس لانهيار الديموقراطية الأميركية، فقط أدى الى تكسير زجاج وتأخير جلسة المصادقة على النتائج بضع ساعات. أما ما قضت عليه عملية الاقتحام فعليا، فحقبة ترامب، التي أسدل الأميركيون الستار عليها، بانتظار خروح ترامب - أو إخراجه عنوة - من البيت الأبيض، منتصف العشرين من الجاري.