«الكويت» والموسيقى ... و«عبقرية علي»!

تصغير
تكبير
ما الذي يجمع بين فوز نادي الكويت ببطولة كأس الاتحاد الآسيوي لكرة القدم وبين طلب احد النواب منع تدريس الموسيقى في المدارس وبين منع الرقابة بيع كتاب «عبقرية علي» للاديب الكبير عباس محمود العقاد في المعرض السنوي للكتاب؟

الجواب بكل بساطة: الحالة الكويتية!

نبدأ من فوز «الكويت» بعد سلسلة تراجعات كويتية شملت في ما شملت الرياضة، ويخطئ من يعتقد ان الرياضة كانت حالة شاذة او متفردة او جزيرة نائية بذاتها لا علاقة لها بما يجري في الكويت. كانت جزءا اساسيا من حالة ضعف وانكفاء ساهمت عوامل كثيرة في تغذيتها، فانعكست عليها الصراعات السياسية والازمات الاقتصادية، وتعرضت لسوء الادارة والتخطيط، ودخلت اليها الواسطات والمصالح الشخصية، وخضعت لسيف التجاوزات والقفز فوق القوانين... تماما كما حصل في مرافق أخرى وميادين أخرى.

هذا الوضع لن ينتج بالطبع سوى الخسارة والتراجع والغياب عن ساحات التألق محليا وعربيا ودوليا... ومع ذلك قرر محاربون من أجل الرياضة والشباب أن يقاوموا اليأس والانكسار فخاضوا معارك عنيفة على جبهتين: وقف التجاوزات وإعادة الاعتبار الى القوانين من جهة والاستمرار في تأهيل الفريق للفوز من خلال تأمين مختلف المتطلبات الضرورية لذلك... وهكذا كان.

من هنا، يمكن فهم ظاهرة الفرح العامة العارمة بكسر نادي الكويت حاجز التراجع والفوز ببطولة قارية بمستوى البطولة الآسيوية، فهو اعاد الانتصار الى خريطة الكويت من بابها الرياضي، ورفع الكأس على آمال عشرات آلاف الشبان الذين استعادوا الثقة بامكانية تحريك الاوضاع مجددا في اتجاه استعادة ريادة مسلوبة، ووحد الجميع على هدف واحد متجاوزين الخلافات والتمايزات بين النوادي... كان «القدساوي» كويتيا و«العرباوي» كويتيا وانصار «كاظمة» و«السالمية» وكل الفرق مع «الكويت» لان الكويت هويتها مميزة، ولان الحالة الكويتية التي تبقى فريدة في اوصافها تجمع الجميع وقت الشدائد والاستحقاقات.

في اليوم نفسه لفوز نادي الكويت هدد نائب في مجلس الامة باستجواب وزيرة التربية ومسؤولي الوزارة ان سمحوا باستمرار تدريس مادة الموسيقى... حالة كويتية اخرى لم يعد احد قادرا على قراءتها وفك رموزها او استيعاب «النوتة» المتعلقة بها.

جيلنا، والجيل الذي سبقنا، والجيل الذي لحقنا، درسنا الموسيقى في المدارس الى جانب نشاطات اخرى مثل الرسم والمسرح ومسابقات إلقاء القصائد، ولم نلمس يوما أي علاقة او ارتباط بين هذه النشاطات وبين الانحرافات الاجتماعية التي يخاف حصولها البعض، او بينها وبين التأثير السلبي على المعتقدات الدينية. نشأت الاجيال بشكل محافظ يحترم الدين والعقيدة والقيم الاجتماعية والعادات والتقاليد، ولم تخرج السلوكيات عموما عما جبل عليه الاهل وفطر عليه الاجداد.

الحديث عن الموسيقى جزء من سمفونية طويلة استمرأ البعض عزفها في مسرح خاص. هي سياسة تعكس وجهة نظر اصحابها في امور الدين والحياة والمجتمع تقابلها وجهات نظر اخرى تستند ايضا الى الاصول الفقهية والعلوم الشرعية. اصحاب هذه الافكار احرار في تبنيها في حياتهم الخاصة انما لا يجوز ان تخرج من اجتهاداتهم الخاصة لتصبح قانونا ينظم الحياة العامة، خصوصا ان لا حدود لها في التطبيق اذ يمكن ان تشمل لاحقا، كما حصل في دول نعرفها، منع اقتناء المذياع والتلفاز وتحريم مباريات كرة القدم... وصولا الى منع تعليم الفتيات.

المشاريع واقفة، والبلد معطل، والتنمية الى الوراء در، والتحديات الامنية والسياسية والاقتصادية والصحية والتعليمية تطوقنا من كل صوب... وبعض نواب الامة يرى ان الحل لكل مشاكلنا يبدأ بمنع تدريس الموسيقى في المدارس.

إنها أيضا... الحالة الكويتية!

وقبل الفرحة الجماعية بفوز «الكويت» وقبل العزف المنفرد في مسرح المنع، افدنا ان معرض الكتاب السنوي منع بقرار من الرقابة بيع كتاب «عبقرية علي» للعقاد. في نهاية العام 2009 يمنع معرض، يفترض ان يكون وجوده اساسا صرخة ضد المنع والقمع، كتابا ولمن؟ للعقاد الذي هو بحق مدرسة في التوازن والاتزان والبلاغة لدى مقاربته للامور التاريخية.

المضحك المبكي في الموضوع ان الكتاب يباع في الكويت من عشرات السنين، وان كتب العقاد منتشرة في كل دول العالم من دون ان تتعرض لسيف المنع، بل ان كتاب «عبقرية علي» تحديدا هو في غالبيته مسرح للمشتركات والتلاقي بين الخلفاء اكثر منه مكانا للخلافات والتناقضات. كتاب يتحدث عن عبقرية الامام العظيم علي بن ابي طالب، كرم الله وجهه، وزهده في الدنيا وانتصاره في الدين وحبه الابدي للرسول الكريم عليه الصلاة والسلام وانحيازه لوحدة القيادة والخلافة بعد وفاة سيد المرسلين وورعه وتقواه. كتاب موثق يتضمن كل وجهات نظر من عاصروه وهذا امر معروف ومتداول في التاريخ الاسلامي ولا يجوز ان يحمل ما لا يحتمل. بل اكثر من ذلك، فان ما ورد مثلا في كتب التاريخ الاسلامي المعتمدة من الثقات من وجهات نظر متباينة متعددة لدى اقطاب ذلك العصر اكثر بكثير مما ورد في كتاب العقاد عن الامام الذي استشهد على سجادة الصلاة.

ويا سيدي الامام، فان «عبقريتك» اكبر بكثير من ان يستوعبها فكر رقيب عمل مقصه بشكل آلي عندما قرأ جملة هنا او عبارة هناك، وبلاغتك اعمق بكثير من ان يقيمها قلم رقيب يفتي في ما لا يعرف، وسيرتك اكبر من ان توضع في سوق المزايدات السياسية والطائفية، لان من ينحو منحى مذهبيا في تناول قضية الرقابة يسيء الى السيرة اكثر مما يدافع عنها وانت الذي كرست دنياك لخدمة دينك وحاربت التفرقة من اجل الوحدة وفضلت الزهد والتعبد على المناصب والعلم على كل شيء: «ولا يسلم لك قلبك حتى تحب للمؤمنين ما تحب لنفسك... وكفى بالمرء جهلا أن يرتكب ما نُهي عنه، وكفى به عقلا أن يسلم عن شره».

لماذا وصلت الرقابة الى ما وصلت اليه؟ إنها أيضا الحالة الكويتية!

لا نبالغ إذا قلنا إن كسر هذه الحالة يتطلب الانجاز والانجاز فقط، فكل تألق يراكم املا بتألق آخر ويحفز على المزيد منه، وكل تراجع يضيف الى حلقة اليأس خطا جديدا ويراكم الاحباط تلو الاحباط... فهل نرى انتصارا جديدا يتجاوز الكرة الى ميادين السياسة والعلم والاقتصاد والفنون والثقافة والعلوم والطب؟ ام ان كرة اليأس ستعيد تثبيت حضورها في ملاعبنا ولو على قاعدة التسلل؟



جاسم بودي
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي