خمسون ألف قنبلة بيننا


من النادر أن نجد حاكما عربيا يكرم المعلم كما فعل سمو الأمير الشيخ صباح الأحمد، فالتكريم عادة لا يكون للجنود المجهولين بل للذين تسلطت عليهم اضواء الشهرة وقاموا بإنجازات معروفة في مختلف المجالات الاقتصادية والعلمية والفنية والثقافية... أما الذين ينجزون كل يوم في مجال تربية النشء ويحرقون أنفسهم ليضيئوا الطريق للآخرين ويتحملون المصاعب والمشقات والظروف الصعبة كي لا يتخلف طلابهم عن ركب التحضر فهؤلاء تذكرهم الشيخ صباح مشكورا لأنه ايضا «معلم» حقيقي في تعبيد دروب المستقبل أمام الأجيال الراهنة.
لفتة سمو الأمير في تكريم المعلم عظيمة في دلالاتها وليست لفتة رمزية فحسب، فحيث وقف يقف مستقبل الكويت الحقيقي. بناء العقول أهم من حفر الآبار، وتقويم السلوك أهم من ارتفاع ناطحات سحاب، واكتساب المعرفة اهم من تعبيد الطرقات وتوسيعها.
وحيث وقف تقف الحقيقة. لا نريد منشآت حيوية نفطية ولا مؤسسات مالية ضخمة ولا صناعات اساسية ولا قطاعات خدماتية يديرها الآخرون. بمعنى آخر نسأل: ما فائدة كل هذه المشاريع إذا لم تكن كوادرنا الوطنية قادرة على إدارتها بكل اقتدار وإبداع؟ ستصبح المعادلة كالتالي: منا الأرض والإمكانات والثروات ومن غيرنا الإدارة والتشغيل... هذا ليس وطنا. انه شركة.
وحيث وقف سموه وقفت الكويت. دولة منفتحة تعددية حضارية ديموقراطية أبوابها مفتوحة للجميع بخبراتهم وقدراتهم لكن ثروتها الحقيقية تكمن في إنسانها الذي أنشأها من العدم وتولى قيادة مراحلها التاريخية وأضاء شعلة الحداثة جيلا بعد جيل وحول هذه الدولة الصغيرة منارة كبيرة في محيطها ورسالة إنسانية في العالم.
وهذا الكلام ليس شعرا أو منطلقا من فورة عاطفية لكن كل من رصد تجارب العقود السابقة وظروف الكويت والمنطقة يدرك كم كان ثمن الريادة كبيرا وكم كان للتعليم والانفتاح دور في مد جسور حضارية مع الجميع. وربما نجد في رائعة احمد شوقي «قف للمعلم» خير وصف للفارق بين مرحلتين حين قال: «تجدُ الذين بنى المسلّةَ جدُّهم... لا يُحسنونَ لإبرةٍ تشكيلا»!
وحيث وقف سموه وقفت ايضا الصورة الكاملة لوضع التربية والتعليم، فالأمير الشيخ صباح الأحمد الذي يعمل ليل نهار لتحويل الكويت الى مركز مالي عالمي أو «نمر خليجي» على غرار النمور الآسيوية، راعه بالطبع التقرير الذي نشرته «الراي» في 7-10-2009 عن وجود 50 ألف طالب وطالبة لم يتخرجوا في «الابتدائية» تتراوح اعمارهم بين 10 سنوات و14 سنة. اي ان ما يزيد على 40 في المئة من طلاب وطالبات الابتدائي بالكاد يقرأون ويكتبون. اين؟ في الكويت التي كانت مدرسة الخليج وجامعة الخليج ومسرح الخليج ومراكز الفن والثقافة في الخليج.
قاسية ومرعبة هذه المفارقة. رأس الدولة يكرم المعلم ويفتح الابواب لكل خطط التنمية العلمية كي تنطلق، وقاعدة الهرم الطلابي، اي في المراحل الابتدائية، نصفها تقريبا خارج نطاق التغطية وبالتالي ستكون عالة على النصف الآخر وعلى الادارة مستقبلا وعلى الشأن الوظيفي، بل ستكون المثال الأسوأ لدولة الرعاية والتجسيد الامثل لقيم التواكل والاستهلاك.
قنبلة بشرية موقوتة ستنفجر في المجتمع والإدارة بعد عشر سنوات أو أقل. خمسون ألف طالب وطالبة سيصبحون 50 ألف مشكلة لأنهم لم يكملوا تعليمهم الابتدائي. والمسؤولية تقع على عاتقنا جميعا إذا لا يستطيع من اكمل علمه ان يقول «وانا شكو»، ولا تستطيع الدولة ان تغض النظر لاحقا عن تدبيرهم وتأمين صيغ تواكلية لتأميناتهم وقروضهم وحاجاتهم، ولن تتوقف الواسطات لحشرهم حشرا في الوظائف غير المناسبة فهؤلاء قاعدة انتخابية كبيرة، ولن تتحقق موازين العدالة (الا نسبيا وفي القطاع الخاص) بين من اجتهد وتخصص وابدع وتفوق وبين من جلس ينتظر النائب الفلاني أو الوزير الفلاني كي يوقع معاملة «اللامانع» الخاصة به.
خمسون ألف قنبلة اجتماعية لم يتوقف عند مخاطرها احد سوى نائب واحد هو الدكتور حسن جوهر. لم نسمع بحالة طوارئ تربوية لمعالجة ما ورد في تقرير اصدرته «الهيئة العامة للمعلومات المدنية» وليس أي مؤسسة دراسات وابحاث خاصة. لم يعقد مؤتمر، ندوة، ورشة عمل... يا سيدي تصريح، بيان، توضيح، تعقيب. لا شيء على الاطلاق. صمت الجميع صمت القبور امام ظاهرة ستدق خمسين ألف مسمار في نعش التعليم مستقبلا.
بعد اللفتات الكريمة لسمو الأمير تجاه المعلم والتعليم، صار واجبا على المعنيين تطوير المناهج وتعديلها وفقا لما تقتضيه المتطلبات العلمية، ولا بأس من القول ايضا وفق ما تقتضيه المصلحة الوطنية لجهة التركيز على ما يوحد، ونبذ ما يفرق.
هذا الموضوع تحدثنا فيه مرارا لكنه كان يصطدم بجدران التسييس من مختلف الاتجاهات، فالمزايدات والمصالح الظرفية والضيقة في الكويت صارت مع الأسف الشديد هي عنصر الاهتمام الأول في التحرك والتصريح، أما مشاكل الناس الحقيقية وفي طليعتها مشكلة التعليم فلا تستقطب صوتا في انتخابات ولا تزيد ولاء لوزير، بل على العكس من ذلك، وليسامحني ربي ان اخطأت، ربما كانت قلة التعليم بالنسبة لبعض النواب والوزراء مدخلا افضل للاستقطابات والولاءات.
قف للمعلم وفه التبجيلا. وقف احتراما وتقديرا لصاحب السمو الامير «المعلم» الذي جعل المشاكل الحقيقية للكويت والكويتيين في صلب اهتماماته، وضع يدك على قلبك خوفا على مستقبل ابنائك، وضع دعاءك في اطار التمني الدائم بالهداية للمعنيين الحكوميين والبرلمانيين والتربويين والمتخصصين للوقوف على الطريق الصحيح والقيام بـ«ضربة معلم» تصحح ما خربناه بأيادينا... قبل ان تضربنا حقيقة الجهل والتخلف بعد سنين معدودات.
نختم ايضا مع شوقي: «وإذا أصيبَ القومُ في أخلاقِهمْ... فأقمْ عليهم مأتماً وعويلا».
جاسم بودي
لفتة سمو الأمير في تكريم المعلم عظيمة في دلالاتها وليست لفتة رمزية فحسب، فحيث وقف يقف مستقبل الكويت الحقيقي. بناء العقول أهم من حفر الآبار، وتقويم السلوك أهم من ارتفاع ناطحات سحاب، واكتساب المعرفة اهم من تعبيد الطرقات وتوسيعها.
وحيث وقف تقف الحقيقة. لا نريد منشآت حيوية نفطية ولا مؤسسات مالية ضخمة ولا صناعات اساسية ولا قطاعات خدماتية يديرها الآخرون. بمعنى آخر نسأل: ما فائدة كل هذه المشاريع إذا لم تكن كوادرنا الوطنية قادرة على إدارتها بكل اقتدار وإبداع؟ ستصبح المعادلة كالتالي: منا الأرض والإمكانات والثروات ومن غيرنا الإدارة والتشغيل... هذا ليس وطنا. انه شركة.
وحيث وقف سموه وقفت الكويت. دولة منفتحة تعددية حضارية ديموقراطية أبوابها مفتوحة للجميع بخبراتهم وقدراتهم لكن ثروتها الحقيقية تكمن في إنسانها الذي أنشأها من العدم وتولى قيادة مراحلها التاريخية وأضاء شعلة الحداثة جيلا بعد جيل وحول هذه الدولة الصغيرة منارة كبيرة في محيطها ورسالة إنسانية في العالم.
وهذا الكلام ليس شعرا أو منطلقا من فورة عاطفية لكن كل من رصد تجارب العقود السابقة وظروف الكويت والمنطقة يدرك كم كان ثمن الريادة كبيرا وكم كان للتعليم والانفتاح دور في مد جسور حضارية مع الجميع. وربما نجد في رائعة احمد شوقي «قف للمعلم» خير وصف للفارق بين مرحلتين حين قال: «تجدُ الذين بنى المسلّةَ جدُّهم... لا يُحسنونَ لإبرةٍ تشكيلا»!
وحيث وقف سموه وقفت ايضا الصورة الكاملة لوضع التربية والتعليم، فالأمير الشيخ صباح الأحمد الذي يعمل ليل نهار لتحويل الكويت الى مركز مالي عالمي أو «نمر خليجي» على غرار النمور الآسيوية، راعه بالطبع التقرير الذي نشرته «الراي» في 7-10-2009 عن وجود 50 ألف طالب وطالبة لم يتخرجوا في «الابتدائية» تتراوح اعمارهم بين 10 سنوات و14 سنة. اي ان ما يزيد على 40 في المئة من طلاب وطالبات الابتدائي بالكاد يقرأون ويكتبون. اين؟ في الكويت التي كانت مدرسة الخليج وجامعة الخليج ومسرح الخليج ومراكز الفن والثقافة في الخليج.
قاسية ومرعبة هذه المفارقة. رأس الدولة يكرم المعلم ويفتح الابواب لكل خطط التنمية العلمية كي تنطلق، وقاعدة الهرم الطلابي، اي في المراحل الابتدائية، نصفها تقريبا خارج نطاق التغطية وبالتالي ستكون عالة على النصف الآخر وعلى الادارة مستقبلا وعلى الشأن الوظيفي، بل ستكون المثال الأسوأ لدولة الرعاية والتجسيد الامثل لقيم التواكل والاستهلاك.
قنبلة بشرية موقوتة ستنفجر في المجتمع والإدارة بعد عشر سنوات أو أقل. خمسون ألف طالب وطالبة سيصبحون 50 ألف مشكلة لأنهم لم يكملوا تعليمهم الابتدائي. والمسؤولية تقع على عاتقنا جميعا إذا لا يستطيع من اكمل علمه ان يقول «وانا شكو»، ولا تستطيع الدولة ان تغض النظر لاحقا عن تدبيرهم وتأمين صيغ تواكلية لتأميناتهم وقروضهم وحاجاتهم، ولن تتوقف الواسطات لحشرهم حشرا في الوظائف غير المناسبة فهؤلاء قاعدة انتخابية كبيرة، ولن تتحقق موازين العدالة (الا نسبيا وفي القطاع الخاص) بين من اجتهد وتخصص وابدع وتفوق وبين من جلس ينتظر النائب الفلاني أو الوزير الفلاني كي يوقع معاملة «اللامانع» الخاصة به.
خمسون ألف قنبلة اجتماعية لم يتوقف عند مخاطرها احد سوى نائب واحد هو الدكتور حسن جوهر. لم نسمع بحالة طوارئ تربوية لمعالجة ما ورد في تقرير اصدرته «الهيئة العامة للمعلومات المدنية» وليس أي مؤسسة دراسات وابحاث خاصة. لم يعقد مؤتمر، ندوة، ورشة عمل... يا سيدي تصريح، بيان، توضيح، تعقيب. لا شيء على الاطلاق. صمت الجميع صمت القبور امام ظاهرة ستدق خمسين ألف مسمار في نعش التعليم مستقبلا.
بعد اللفتات الكريمة لسمو الأمير تجاه المعلم والتعليم، صار واجبا على المعنيين تطوير المناهج وتعديلها وفقا لما تقتضيه المتطلبات العلمية، ولا بأس من القول ايضا وفق ما تقتضيه المصلحة الوطنية لجهة التركيز على ما يوحد، ونبذ ما يفرق.
هذا الموضوع تحدثنا فيه مرارا لكنه كان يصطدم بجدران التسييس من مختلف الاتجاهات، فالمزايدات والمصالح الظرفية والضيقة في الكويت صارت مع الأسف الشديد هي عنصر الاهتمام الأول في التحرك والتصريح، أما مشاكل الناس الحقيقية وفي طليعتها مشكلة التعليم فلا تستقطب صوتا في انتخابات ولا تزيد ولاء لوزير، بل على العكس من ذلك، وليسامحني ربي ان اخطأت، ربما كانت قلة التعليم بالنسبة لبعض النواب والوزراء مدخلا افضل للاستقطابات والولاءات.
قف للمعلم وفه التبجيلا. وقف احتراما وتقديرا لصاحب السمو الامير «المعلم» الذي جعل المشاكل الحقيقية للكويت والكويتيين في صلب اهتماماته، وضع يدك على قلبك خوفا على مستقبل ابنائك، وضع دعاءك في اطار التمني الدائم بالهداية للمعنيين الحكوميين والبرلمانيين والتربويين والمتخصصين للوقوف على الطريق الصحيح والقيام بـ«ضربة معلم» تصحح ما خربناه بأيادينا... قبل ان تضربنا حقيقة الجهل والتخلف بعد سنين معدودات.
نختم ايضا مع شوقي: «وإذا أصيبَ القومُ في أخلاقِهمْ... فأقمْ عليهم مأتماً وعويلا».
جاسم بودي