بالبريد العاجل ... والمضمون!

تصغير
تكبير
قبل انتشار الانترنت بنحو عقد من الزمان، ربطت دراسة اميركية بين تحضر الدولة وبين قوة خدماتها البريدية، ذاكرة ان الدولة المتحضرة هي الدولة التي تقسم الشوارع والمنازل بشكل واضح ومرقم لا لبس فيه والتي لا يأخذ وصول الرسالة الى المرسلة اليه ساعتين من لحظة ورودها الى مركز البريد.

... مدخل نغلقه قليلا ونعود إليه لاحقا.

ان تكون الحكومة اصلاحية يعني ان تطلق دورة العمل والانتاج والتغيير ومكافحة الفساد وتطهير الادارة واعلاء شأن القانون واقرار المشاريع وتأمين فرص العمل وتطوير القطاعات الصحية والتربوية والخدمية بمختلف انواعها. هذا هو الطريق الصحيح ولو هاجمها جميع نواب الامة والشخصيات السياسية والاجتماعية.

وان تكون الحكومة غير اصلاحية يعني أن تفتح كل الابواب على الصفقات والتسويات مع النواب من اجل تمرير قضايا شعبية راهنة وانتخابية موسمية، فتتغاضى عن تجاوز هنا وتكدس الموظفين هناك وتوقف مشروعا هنا وتؤجل آخر هناك. هذا هو الطريق الخطأ ولو مدحها جميع نواب الامة والشخصيات السياسية والاجتماعية.

المحك اليوم بين المقاربتين هو موضوع اسقاط القروض عن المواطنين، وهو موضوع نفهم انه سلاح برلماني يدغدغ به النائب مشاعر ناخبيه، خصوصا اولئك الذين يعيشون تحت ضغوط مادية، ونفهم أنه مادة دسمة لمن يبحثون عن دور الوسيط بين الحكومة والمجلس فيقولون لاقطابها ان المرونة في قضية كهذه يمكن ان تكسبها تعاطفا شعبيا او تخفف عنها بعض الاستجوابات أو تؤشر إلى أنها متعاونة مع المجلس.

هل من مصلحة للحكومة في ذلك كله؟

الجواب بالطبع ليس في مصلحة الحكومة، لا راهنا ولا على المدى المتوسط ولا في المستقبل.

القرض أولا وأخيرا هو علاقة تعاقدية بين المقترض والمصرف، والقانون وضع اسسا لعدم حصول تجاوزات كبيرة في نسبة الفوائد ومنح صاحب المصلحة الحق في التظلم وهناك قضايا كثيرة حسمت لمصلحة المتظلمين. القرض التزام يجب ان يسدد وهو امر بدهي قام به كثيرون، ولنتخيل مثلا كيف سيضرب اسقاط القروض واحدة من اهم القيم المطلوب ترسيخها أي العدالة والمساواة، فمن اجتهد ونظم حياته بطريقة تمكنه من السداد نساويه بمن توسع في الاقراض من دون أي تنظيم لاموره ودفعت الدولة دينه... وهذا لا يجوز.

هناك الكثير من الحالات التي تعيش تحت ضغط مالي حقيقي وهذه يفترض ان يتعاطف الجميع معها وان تبتكر لها الحلول المنصفة مثل صندوق المعسرين، اضافة الى طرق مساعدة اجتماعية مالية اخرى في اطار الاعراف والقوانين والعادات، لكن اسقاط القروض بالشكل الذي يتم بحثه لا يضرب مفهوم العدالة ويكرس قيم التواكل فحسب بل سيخلق سابقة مخيفة تنعكس سلبا على الحالة المالية للدولة وصندوق الاجيال، وبالتالي سيبني «مقترحون» جدد على ما تأسس ويشرعون للمزيد والمزيد من القوانين المماثلة التي ستضع على كاهل الاجيال القادمة قروضا ربما لا يكفي الدهر لايفائها.

صحيح ان المادة 109 من الدستور نصت على حق النائب في تقديم اقتراحات بقوانين لكنها مادة مشروطة بالمصلحة العامة ومضبوطة على ايقاع التوافق بين السلطات لما فيه خير الامة. ولذلك يحق لسمو الامير الشيخ صباح الاحمد رفض التوقيع على اي قانون يرى انه يتعارض والمصلحة العامة وبالتالي رده، كما تستحق رؤية صاحب السمو المالية والاقتصادية للكويت ان تكون اولوية في البرامج النيابية والحكومية من اجل وقف السجالات العقيمة حول القروض وغير القروض والبدء من مكان ما في كسر الجدار الاسمنتي الذي يكبل عملية انطلاق القرار.

ان عدم وضوح الحكومة وحزمها في الحديث الواضح المباشر الرافض لاسقاط القروض يفتح الباب امام نواب يعتبرون التردد اشارة يجب تلقيها بمزيد من التصعيد الذي يكسبهم المزيد من الشعبية، وبالتالي قد يؤدي ذلك الى حل دستوري جديد للبرلمان ينعكس مرة اخرى بالسلب على الاستقرار والتعاون المنشودين.

وعدم وضوح الحكومة يفتح الباب ايضا لمجموعات ضغط شعبية ووطنية واقتصادية للدخول على الخط من منطلق الحفاظ على العدالة الاجتماعية والمال العام... وهذا الامر يدعم الحكومة اذا حسنت النيات ويشوّش على عملها ان ساءت النيات او اظهر بعضهم عكس ما يضمر.

الكرة في ملعب الحكومة، وعليها ان تحسم الموضوع وتظهر للجميع ان موقفها واحد موحد حازم ونهائي عنوانه: رفض اسقاط القروض.

سيقف من يواجه متسلحا بالقروض والمنح لهذه الدولة او تلك، ومتسلحا بشكاوى عن هدر تعرض له المال العام، ومتسلحا بأن على الحكومة ان تساعد المحتاجين بدل دعم «الهوامير»؟ فليكن. ولترد الحكومة على نقاطه من دون ربطها بإسقاط القروض... فمن حق النائب ان يقول ما يشاء تحت سقف السياسة ووكالتها وتكتيكاتها، لكن الديموقراطية لا تعني على الاطلاق الاستجابة لكل مطلب حتى ولو كان بريقه من ذهب.

عود على بدء. عندما تأخذ الرسالة البريدية في الكويت اكثر من ثلاثة اشهر لتصل من شارع الى شارع آخر مجاور، لا يجوز ان نخلط الاولويات الاصلاحية ونبدأ من مرحلة الفوضى. علينا تشخيص الامراض الحقيقية واعطاء العلاج المناسب لها لا ان نكون سعاة بريد ننقل في حقائبنا اسوأ الطرود والمظاريف.

البلد بحاجة الى سعاة خير اكثر من سعاة بريد كي تصل الرسالة في موعدها ونقف مجددا على عتبات الدول المتحضرة، ونحن على ثقة بأن سمو الرئيس هو رجل دولة متحضر، يعرف كيف يتعامل مع كل الرسائل، ويتقن- تحديدا - قراءة ما بين السطور.



جاسم بودي
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي