... مَنْ يخالف الدستور؟

تصغير
تكبير
يقف الكويتي أمام أخبار الصحف اليومية بوجل شديد، خصوصا هذه الأيام، فالأزمات تتلاحق وجلها يطول الناس مباشرة في صحتهم وأرزاقهم وتعليمهم وأعمالهم، من الأزمة المالية التي أنتجت افلاسات ومسرحين... إلى انفلونزا الخنازير التي حاصرت الناس وطوقت المدارس... إلى تلوث البحر وما صاحبه من مخاطر على البيئة والثروة السمكية ومياه الشرب.
... أزمات أزمات، تتجاوز المألوف في العلاقة بين السلطتين لأنها لم تعد صياحا تلفزيونيا يمكن تغيير محطته بالريموت كونترول، أو تصعيداً في صحيفة يمكن طيّها أو قلب صفحاتها. ليست قضية فساد في مؤسسة أو عملية اختلاس يبحث فيها القضاء. هي أمور تجاوزت كل الخطوط التقليدية وضربت مباشرة، ومن دون واسطات، المواطن في صحته وجيبه وعمله وتعليمه.
والازمة الحقيقية تكمن في ان التعامل مع الأزمات الكبيرة التي نعيشها ما زال هو هو لدى المجلس والحكومة على حد سواء، بينما المنطق يقول ان البلاد في شبه حالة طوارئ غير معلنة تقتضي توافر عقلية جديدة وتحركا استثنائيا وتضافر جهود حقيقية ومميزة واتفاقا واجماعا غير مسبوقين بين المجلس والحكومة... لكن على من تقرأ مزاميرك يا داوود؟

تقول المادة 50 من الدستور: «يقوم نظام الحكم على أساس فصل السلطات مع تعاونها وفقا لاحكام الدستور. ولا يجوز لأي سلطة منها النزول عن كل أو بعض اختصاصاتها المنصوص عليها في الدستور».
ما يحدث هذه الايام هو انتهاك صارخ لهذه المادة. المجلس يتدخل بشكل سافر في عمل الحكومة والحكومة تتنازل بشكل مستمر عن اختصاصاتها للمجلس.
مَنْ يتحمل مسؤولية هذا التداخل؟ الطرفان معا بكل تأكيد.
ومَنْ سيحاسب الطرفين إذا استمر التداخل والجمود والشلل وتعطيل مصالح المواطنين؟ المواطنون انفسهم وبالأساليب الديموقراطية والدستورية.
صار النواب متخصصين في انفلونزا الخنازير. يعرفون تاريخ المرض ومستقبله وطرق الوقاية والعلاج وآليات التعامل معه.
صاروا خبراء ماليين يعرفون تماما اتجاهات الريح الاقتصادية الدولية وانعكاساتها على المؤسسات والموازنة العامة وتأثيراتها الاجتماعية، ويحاضرون في الحلول الناجعة لثبات الشركات وتقدمها وتحقيقها الارباح ووقف التسريح.
صاروا علماء في البيئة ومكافحة التلوث البحري والحفاظ على نقاء مياه الشرب.
لا بأس، لا بأس... لكن هذا الامر لا يعطيهم الحق في قطع الطريق على المتخصصين والخبراء والاطباء والعلماء، ولا يجيز لهم التصرف بالطريقة نفسها التي كانوا يتصرفون بها قبل الازمات الاخيرة. واليوم قبل الغد على النواب الاقتداء بالمادة 50 من الدستور من تلقاء أنفسهم ووقف الزحف على اختصاصات السلطة التنفيذية احتراما للمواطن وآلامه وآماله، فإن كانوا يعلمون خطورة التمادي في هذا الامر، فتلك مصيبة، وان كانوا لا يعلمون فالمصيبة أكبر.
أما الوزراء المخلصون في نياتهم معالجة الازمات الراهنة بقدر عال من المسؤولية وبما تمليه عليهم ضمائرهم، فإنهم باتوا مع استمرار الضغط النيابي عليهم وسماع اسطوانة الاستجواب عند الفطور والغداء والعشاء، يخشون ان يلاقوا مصير وزراء سابقين عملوا بجد واخلاص لكنهم، مع صراع البقاء وصفقات الاستمرار في المناصب، تم بيعهم قبل صياح الديك وبثلاثين من الفضة. ونحمد الله ان في الحكومة الحالية وزراء يهتمون فعلا بالشأن العام اكثر من اهتمامهم بمناصبهم، وهم غير مستعدين للمساومة على صحة الناس وتعليمهم وارزاقهم واعمالهم، لكنهم قد يتفاجأون بمن يدعونهم الى التراجع عن المشاريع والمخططات من داخل بيتهم الحكومي أو يقرأون استقالاتهم عبر وسائل الاعلام... تذكروا فقط عبد الله المعتوق وبدر الحميضي ومحمد العليم وراجعوا كيف «استقالوهم».
السلطة التنفيذية تتنازل بالضغط النيابي ايضا عن صلاحياتها. بيان تصعيدي يهدد رئيسها أو احد نوابه بالاستجواب يغير معادلات طويلة عريضة، فتقدم طوعا على التراجع بحجة الاستقرار واطفاء الازمات بغض النظر عن الثمن السياسي والمالي والاجتماعي الذي يدفع. هنا لا بد من التذكير بأن المشرع أراد من المادة 50 من الدستور التأكيد على ان «التنازل» عن الصلاحيات اخطر من اغتصاب هذه الصلاحيات... «ولا يجوز لاي سلطة منها النزول عن كل أو بعض اختصاصاتها المنصوص عليها في الدستور».
النهج النيابي منذ فترة طويلة لا يأبه لفصل السلطات، والنهج الحكومي يستدرج النيابي ويفتح الشهية لمزيد من التجاوزات والزحف. المسؤولية مشتركة والمواطنون الذين استقالوا من متابعة التطورات بين المجلس والحكومة في فترة معينة مللا وقرفا، ليس في استطاعتهم اليوم ان يقفوا متفرجين، لأن الازمات مختلفة وتعنيهم مباشرة ولان النهج السابق لا يمكن السماح باستمراره.
هذه المرة لن يسمح الكويتيون بأن يقال لهم: «لا حياة لمن تنادي»، فهم سيسمعون الحكومة والمجلس اصواتهم من دون زحف أو تجاوزات، أما اذا استمر تجاهل من فتك بهم المرض أو رمتهم الازمة المالية خارج اعمالهم أو حاصرهم التلوث في رزقهم وصحتهم، فهذا هو الوباء الحقيقي الذي يمكن ان يصيب أمة... وهذا ما يستلزم وسائل علاج مختلفة وغير تقليدية.
جاسم بودي
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي