لا تتاجروا بأرواح الناس

تصغير
تكبير
أصعب ما في المآسي أن يتاجر البعض بأرواح الناس من أجل التكسب السياسي أو زيادة حضوره في وسائل الاعلام. واقسى ما في المآسي ان يستخدم البعض قميص الضحية جسرا للعبور الى مرحلة هجومية اخرى تحقق له اهدافه الخاصة المبطنة بشعارات عامة.
كانت صورة الطفلة التي سقطت بمرض انفلونزا الخنازير مؤثرة جدا. ابكت الكويتيين ووزير الصحة والاطباء الذين اشرفوا على علاجها كما ابكت اهلها. طفلة بريئة لم تمتلك المناعة لمقاومة الوباء الجديد المنتشر في كل انحاء العالم فأسقطها مستفيدا من بعض الاضطرابات الصحية المصاحبة، وكذلك الحال بالنسبة للحالات الثلاث السابقة التي قضت بالمرض نفسه.
لكن اللافت في الامر هو دعوة عدد من النواب وبسرعة البرق الى استقالة وزير الصحة الدكتور هلال الساير وتهديده بمنصة الاستجواب... وهنا لا بد من وقفة، ليس دفاعا عن الوزير بل احترام للعقل والمنطق.

انفلونزا الخنازير مرض اجتاح العالم وما زال يجتاحه. اصيب به مئات الكويتيين وغادرت غالبيتهم المستشفيات بعد شفائهم منه. ومنذ اليوم الاول لظهوره في الكويت تعاطى وزير الصحة مع الموضوع بكل شفافية ومسؤولية. كشف عن عدد الاصابات أولاً بأول وعن طرق العلاج واساليب الوقاية وسخّر كل جهوده وامكاناته لتأمين كل متطلبات التعافي والاستشفاء، ووزعت الوزارة جملة ارشادات صحية مماثلة لتلك التي تمت في مختلف انحاء العالم، واتخذت اجراءات محددة في المنافذ الحدودية لضبط الحالات المصابة بقدر الامكان.
هناك اجراءات اخرى يجب ان تتخذ وامكانات اخرى يجب ان تتوافر؟ بالتأكيد، وهذا الامر ليس فقط في الكويت وانما في دول متقدمة مثل الولايات المتحدة وبريطانيا.
هناك ما يمكن فعله اكثر من اجل تطويق انتشار الفيروس؟ صحيح، فهذه حالة جديدة اربكت العالم بأسره وتكفي متابعة سريعة للنقاشات الطبية والسياسية والاجتماعية في اوروبا واميركا للوقوف على حجم الارباك.
هناك اخطاء حدثت واخرى ستحدث؟ هناك ضحايا سقطت واخرى ستسقط؟ الجواب بكل واقعية «نعم» و«ممكن»، فالحالات قد لا تتشابه، والوعي بالمرض لم يكتمل لدى شرائح واسعة من الناس، والقدرات البشرية محدودة والبشر خطاؤون.
... لكن كل هذه الاسئلة المشروعة والاجابات الواضحة تحتاج الى تكامل الجهود الصحية والسياسية والاجتماعية والاهلية لا الى تناقضها وانقسامها وتنافرها. وآخر ما نحتاج اليه ونحن نواجه حالة مرضية استثنائية عالمية ان يستخدم بعض النواب اللغة نفسها والاساليب نفسها والتهديدات نفسها التي يستخدمونها في مواجهة وزير لم يمرر معاملة، او في التهجم على وزير شيخ نيابة عن وزير شيخ آخر، او في التصدي للاختلاط وعدم الاختلاط، او الحديث عن ثوابت الامة، او بحث موضوع التجنيس.
هلال الساير انسان وطبيب قبل ان يكون وزيرا. اقسم على الالتزام بمساعدة المرضى وبذل كل ما يستطيع من اجل بلسمة جراحهم وآخر ما ينتظره شهادة فلان وفلان في ادائه وهو الذي كرّس حياته لترجمة شهادة الطب التي حصل عليها عملا يوميا مع المرضى. النصيحة مطلوبة وكذلك الملاحظة والانتقاد، انما في محلها ومن اهل الاختصاص، فالطبيب يحتاج الى مساعدة في الاستشارة، والمسؤول يحتاج الى مراجعة، لكن ان يستغل البعض حالة وفاة للتهديد بالمنصة من دون الوقوف على الظروف والملابسات فهذه هي التجارة الحقيقية بالارواح.
مواجهة انفلونزا الخنازير تتطلب ان يقف النائب مع الوزير والمواطن مع المسؤول والمريض مع الطبيب والعكس صحيح، وان تتصرف كل نخب المجتمع المدني من مؤسسات وهيئات ولجان تطوعية وكأنها في حالة طوارئ، لزيادة نشر الوعي، وزيادة عوامل المساعدة، وزيادة وسائل الاستشفاء، وان تحول وزارة الصحة كل المستوصفات والمراكز والمستشفيات الى مناطق علاجية قادرة على التصرف السريع مع المرض وامتداداته. نقول ذلك لان نتائج انتشار الوباء لا قدر الله ستتجاوز القطاع الصحي الى قطاعات التربية والعمل والاقتصاد والحركة التجارية... الى الكويت برمتها.
بعض الخجل والاحترام لارواح الضحايا التي سقطت ضروري جدا، وبعض الاحساس بالمسؤولية تجاه هذا الوباء العالمي مطلوب اكثر من ذي قبل، فلا يظنن احد انه حريص على ارواح المصابين اكثر من الوزير الطبيب الذي كرس حياته كلها لبلسمة جراح المتعبين، ولتتوقف لغة التصنيف التي اثقلت آذاننا ونفوسنا منذ سنوات فأخرجت هذا من وطنيته وذاك من ايمانه وثالثاً من انسانيته... لاننا امام مهمة لن نحقق النجاح فيها بشكل كامل ولو تضافرت كل الجهود فما بالنا والانقسامات تعصف بالجهود مع كل تصريح لنائب او تهديد باستجواب.
لا احد يدافع عن الوضع الصحي المتردي في الكويت، ويكفينا خجلا اننا بعد كل هذه العقود وكل الامكانات المالية ما زلنا نتعالج في الخارج او نستقدم اطباء تخصصاتهم عادية من الخارج، ناهيك عن فقر المنشآت وقلة عدد الاسرة والتهاون في اختيار العمالة. لذلك فإن كان هناك من استجواب يجب ان يقدم فهو من الشعب الكويتي لرئيس الحكومة واعضائها من جهة وللنواب من جهة اخرى الذين توقفت مطالباتهم بتطوير الوضع الصحي بمجرد ان وقع الوزير، اي وزير، عبارة «لا مانع» على طلب علاج في الخارج لقريب او صديق او نصير او ناخب.
مرة اخرى، انفلونزا الخنازير ليس معاملة «لا مانع». هو موضوع يجب ان توضع بينه وبين النهج السائد في العلاقة بين السلطتين «كل الموانع»... رحمة بالكويت وبابنائها.
جاسم بودي
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي