غـبــار

تصغير
تكبير
كان الغبار كثيفا هذه السنة. متعدد الانواع والاتجاهات والمصادر. معيقا للرؤية ومعطلا لخدمات اساسية في الدولة مثل المطارات والموانئ. موجات تجتاح الاجواء وتنجلي إما بمطر وإما بانسحاب مع حركة السحاب تاركة المكان لموجات اخرى مباغتة او متوقعة.
لم يغب الغبار عن الكويت يوما لكنه هذه السنة كان شديد الحضور. كان نجما في نشرات التلفزيون المحذرة من اطنان هابطة عموديا ومنتشرة افقيا، وضيفا على صور الاقمار الاصطناعية التي لونت حركته مثلما فعلت مع اعاصير الساحل الاميركي الجنوبي او عواصف البحار الآسيوية. وغالبا ما كان يغادر تاركا توابعه وذيوله وذراته عبر الاثير كي نتذكر ان الاجواء ليست صافية تماما وان الاختناق والازمات وانعدام الرؤية امور واردة في اي لحظة.
وفي السياسة كما في المناخ، انعدام في الرؤية واعاقة لخدمات اساسية في الدولة. غبار متوقع وغير متوقع متعدد الانواع والاتجاهات والمصادر. بعضه اصفر فاقع يذكر بقول الامام علي عليه السلام: «احذروا صفر الوجوه بغير علة»، فهؤلاء قادرون على التخريب والهدم وزرع الفتن والانقسامات فيما وجوههم خالية من اي نوع من انواع الحياة لا تتدفق المياه في اوردتها ولا تغسل الغيرة الوطنية شيئا من قساوتها. غبار اصفر ينتشر بجزيئات صغيرة جدا في اماكن كنا نعتقد انها محصنة ضده، لكنه يتغلغل ببطء ثم ينسحب تاركا توابع وذرات في النفوس والاجواء على حد سواء. اشياء نراها ونلمسها ونستغرب حصولها كونها تتعارض مع ما جبل عليه الكويتيون من روح وطنية لا طائفية ولا مذهبية، ثم يزول استغرابنا مع موجات جديدة من المغامرة بالوحدة الوطنية اقوى مما سبقها ويحل محله الدعاء بهداية الجميع كي يعتصموا بحبل الله والوطن مجددا.

وهناك غبار كثيف يحيط بحرية الرأي والتفكير والمعتقد في ضوء التحريض المستمر من ادعياء الغيرة على الدولة ضد وسائل الاعلام ومؤسسات المجتمع المدني. وهؤلاء في واقع الامر يخافون على مصالحهم ومناصبهم فيخلطون بينها وبين مبادئ سامية ليصبح انتقادهم انتقادا للوطن او للمؤسسات، ثم يستكملون الخلط فتصبح هذه الوسيلة الاعلامية او ذاك التحرك الشعبي اسمين مرادفين للديموقراطية ولا بد من توجيه الهجوم عليها وتحميلها مسؤولية ما يجري. وهذا النوع من الغبار انتشر بكثافة في الاشهر القليلة الماضية ووصل الامر بالمستفيدين منه الى المطالبة بتعليق الدستور ردا على بعض الممارسات النيابية... لكن الغبار ليس وكيلا في وزارة يمكن تقييده او مناصرا يمكن تطويعه ولذلك سيستنشقه الجميع اذا تمكن من السيطرة بمن فيهم اولئك الذين فتحوا الاجواء له وسهلوا تغلغله.
أما الغبار الاخبث فهو الغبار غير المعلن وغير المتوقع. ذرات تطبخ في مختبرات خاصة بهدف التشويش والتضليل والتنويم والتشتيت. غبار لن يظهر على شاشات الرادار الا بمقادير ضعيفة جدا وقليلة جدا كي لا يكتشف امره، فما سيظهر هو التأزيم السياسي فالتكتلات المؤيدة والمعارضة فالصياح ثم التهديد، وما لن يظهر في الصورة الآن هو المحرك الرئيسي المخفي لأزمة معلنة او المستفيد الحقيقي منها بعد انجلاء غبار المعارك المقبلة. غبار يتم تحضيره في غرف مضبوطة، جدرانها مراقبة، وفتحات التهوية فيها تحت السيطرة. تطير نسائمه بالمقدار الذي يريده الطباخون كي لا تنكشف الامور اذا زادت عن حدها، فالوزير الذي يقف على المنصة او تنتظره منصة عليه النظر مطولا الى عيني وزير زميل له او قريب له قبل النظر الى عيون النواب الموقعين على طلب طرح الثقة، والوزير الذي يصبح اسمه حقل رماية في الندوات واللقاءات والبيانات عليه التمعن بهدوء وروية في الاصابع التي تضغط على الزناد املا في ازاحته من الطريق السياسي لمصلحة آخرين يرمونه في العلن بكل انواع الورود والزهور ورغبات التعاون الصادقة.
والغبار الدائم في اجواء الكويت هو الغبار القادم من الشمال والجنوب والشرق والغرب ومن وراء البحار والمحيطات، وهو يحتاج الى مصدات على درجة عالية من الكفاءة والحرفية لان الاخطاء في هذا المجال قاتلة. غبار يحمل معه مخاوف من تخصيب الفتنة والارهاب والانقسام واهتزاز الامن السياسي والاجتماعي والاقتصادي. ينجلي تارة عن عناصر ارهابية تحضرت في ثلاث او اربع دول قبل ان تصل الى الكويت او خرجت من الكويت الى ثلاث او اربع دول، وينجلي طورا عن انقسامات حادة في الرأي حول العلاقة مع هذه الدولة او تلك تبعا للهوية الطائفية لا وفقا للمصلحة الوطنية... ودائما دائما تمهد هذه الاجواء اراضي دول المنطقة كي تكون ملاعب في لعبة الامم ما دامت قاصرة عن حل مشاكلها وازماتها بوسائلها الذاتية وقدراتها الخاصة.
قدر الكويت ان تتعايش مع الغبار بحكم موقعها الجغرافي لكن غياب الرؤية يجب ان ينحصر في المناخ لا في النفوس والعقول، لأننا قد نصل الى يوم نترحم فيه على تقلبات الجو بسبب المتقلبين على الارض... والانقلابيين على الصيغة والثوابت.
جاسم بودي
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي