عدم الانحياز لمن ومن؟


انتهت قمة دول حركة عدم الانحياز في شرم الشيخ ولم تنته الاسئلة المتعلقة بالحركة نفسها، فالانحياز لمن؟ وعدم الانحياز بين من ومن؟
عندما تأسست الحركة عام 1955 في باندونغ اعطت لنفسها انطباعا بأنها الطريق الثالث بين معسكرين ضخمين فرزتهما الحرب العالمية الثانية، لكنها في واقع الحال كانت طريقا موازيا لاحد هذين المعسكرين بدليل علاقة مؤسسيها بالاتحاد السوفياتي السابق وبينهم على الاخص الراحلان جمال عبد الناصر وجوزف تيتو، على رغم اجتهاد نهرو وسوكارنو في الحفاظ على هامش استقلالي اكبر لاستقطاب المزيد من الدول الى الحركة وقد بلغ عددها حتى الآن 116 دولة لم تجد غضاضة في الانتساب لجاذبية الاسم ونبل الاهداف.
وعندما تسلم الرئيس المصري حسني مبارك رئاسة الحركة من نظيره الكوبي في شرم الشيخ قبل يومين، تذكر الجميع كيف حبس العالم انفاسه في اكتوبر 1962 عندما تحولت كوبا الى قاعدة للصواريخ السوفياتية، وكادت الدولة التي كانت حتى يومين مضيا رئيسة لحركة عدم الانحياز ان تشعل حربا نووية عالمية لو لم تتداركها الديبلوماسية والمخاوف، واستمرت هذه الدولة قاعدة لكل المناهضين للولايات المتحدة في «حديقتها الخلفية» على مدى عقود... وباسم عدم الانحياز.
وفي الحركة دول كثيرة بينها افغانستان التي ترجمت عدم انحيازها بتحولها الى مختبر اساسي للحرب الباردة بين «الناتو» و«وارسو»، فهذه الدولة غير المنحازة اعتنقت النظام الشيوعي لكن جغرافيتها المميزة على خطوط الثروات الطبيعية بين الشرق والغرب جعلتها هدفا للتغيير، فانتقلت البنادق بين «الثوريين الاشتراكيين» المدعومين من موسكو الى «المجاهدين المسلمين» المدعومين من واشنطن. نجح المجاهدون بصواريخ «ستينغر» في هزيمة الجيش السوفياتي، وفشل الاميركيون لاحقا في السيطرة على المارد الذي اطلقوه من قمقم دولة... غير منحازة.
أما الكويت، وهي عضو في الحركة، فكانت الاختبار الاول لتحالفات العالم بعد انتهاء الحرب الباردة وانهيار معسكر وتفرد آخر بالريادة. فقبل الغزو العراقي بأشهر انهار جدار برلين وكانت الامور تتجه الى انهيارات اكبر في المنظومة الشرقية. احتلت الكويت في الفترة الانتقالية بين سقوط حلف وارسو وتمدد حلف الناتو، لكن تحالفا دوليا كبيرا اصطف خلف الولايات المتحدة لتحريرها، ولو لم تكن ظروف العالم انتقالية آنذاك لتغير مجرى التطورات ربما واختلفت النتائج. الكويت اليوم دولة غير منحازة، هكذا تقول عضويتها في حركة تأسست قبل 54 عاما لكنها شريك للولايات المتحدة في المنطقة وحليف اساسي من خارج «الناتو» وصديق وقّع عشرات الاتفاقات الاستراتيجية مع واشنطن.
وما ينطبق على الكويت ينطبق على السعودية ومصر والبحرين ونيجيريا مثلا، وينطبق من زاوية اخرى على كوريا الشمالية (وهي عضو في الحركة) التي تطلق كل فترة تجربة نووية تهز المحيطات وتعطي اشارات مخيفة للاستقرار العالمي وتعيد رسم العلاقة بين اميركا وروسيا والصين. كما ينطبق ايضا على ايران التي نقلت ملفها النووي الى ما وراء البحار وساهمت حتى الآن في «عدم انحياز» الاقطاب الكبار الى فكرة واحدة للمواجهة معها وامهلها الرئيس اوباما حتى سبتمبر المقبل.
الفكرة برمتها غير مفهومة الآن. ربما كانت جزءا من تكتيكات الحرب الباردة في خمسينات القرن الماضي مستفيدة من نجومية زعماء تلك المرحلة المترافقة مع حركات التحرر الوطني والزخم القومي. افرزت الحرب العالمية الثانية محورين كبيرين لكن العلاقات الدولية تغيرت اليوم تغيرا جذريا بانهيار احدهما ولم تستطع امكانات الدول الخاصة الصغيرة ان تحل مكان الحاجة الى دعم محور قوي حتى ولو كان هذا المحور بقيادة ظالمة وغير منصفة مثل قيادة الولايات المتحدة التي لم تصدق ربما المكانة التي وصلت اليها، فعمدت الى تقسيم العالم مجددا الى محورين هما «الخير والشر».
... وبين الخير والشر لا جدوى من «عدم الانحياز»، لان المطلوب هو الانحياز للخير، أما الشر فإشاراته كثيرة اهمها جدار الفصل العنصري في الاراضي المحتلة بكل ما يحمل من معاني الاحتلال والقمع واغتصاب الحقوق، وهو الجدار الذي لن تشجع واشنطن على هدمه كما حصل مع جدار برلين لأنها لا تريد لمرحلة اخلاقية جديدة ان تنمو في المنطقة.
كل مؤتمر وأنتم بخير.
جاسم بودي
عندما تأسست الحركة عام 1955 في باندونغ اعطت لنفسها انطباعا بأنها الطريق الثالث بين معسكرين ضخمين فرزتهما الحرب العالمية الثانية، لكنها في واقع الحال كانت طريقا موازيا لاحد هذين المعسكرين بدليل علاقة مؤسسيها بالاتحاد السوفياتي السابق وبينهم على الاخص الراحلان جمال عبد الناصر وجوزف تيتو، على رغم اجتهاد نهرو وسوكارنو في الحفاظ على هامش استقلالي اكبر لاستقطاب المزيد من الدول الى الحركة وقد بلغ عددها حتى الآن 116 دولة لم تجد غضاضة في الانتساب لجاذبية الاسم ونبل الاهداف.
وعندما تسلم الرئيس المصري حسني مبارك رئاسة الحركة من نظيره الكوبي في شرم الشيخ قبل يومين، تذكر الجميع كيف حبس العالم انفاسه في اكتوبر 1962 عندما تحولت كوبا الى قاعدة للصواريخ السوفياتية، وكادت الدولة التي كانت حتى يومين مضيا رئيسة لحركة عدم الانحياز ان تشعل حربا نووية عالمية لو لم تتداركها الديبلوماسية والمخاوف، واستمرت هذه الدولة قاعدة لكل المناهضين للولايات المتحدة في «حديقتها الخلفية» على مدى عقود... وباسم عدم الانحياز.
وفي الحركة دول كثيرة بينها افغانستان التي ترجمت عدم انحيازها بتحولها الى مختبر اساسي للحرب الباردة بين «الناتو» و«وارسو»، فهذه الدولة غير المنحازة اعتنقت النظام الشيوعي لكن جغرافيتها المميزة على خطوط الثروات الطبيعية بين الشرق والغرب جعلتها هدفا للتغيير، فانتقلت البنادق بين «الثوريين الاشتراكيين» المدعومين من موسكو الى «المجاهدين المسلمين» المدعومين من واشنطن. نجح المجاهدون بصواريخ «ستينغر» في هزيمة الجيش السوفياتي، وفشل الاميركيون لاحقا في السيطرة على المارد الذي اطلقوه من قمقم دولة... غير منحازة.
أما الكويت، وهي عضو في الحركة، فكانت الاختبار الاول لتحالفات العالم بعد انتهاء الحرب الباردة وانهيار معسكر وتفرد آخر بالريادة. فقبل الغزو العراقي بأشهر انهار جدار برلين وكانت الامور تتجه الى انهيارات اكبر في المنظومة الشرقية. احتلت الكويت في الفترة الانتقالية بين سقوط حلف وارسو وتمدد حلف الناتو، لكن تحالفا دوليا كبيرا اصطف خلف الولايات المتحدة لتحريرها، ولو لم تكن ظروف العالم انتقالية آنذاك لتغير مجرى التطورات ربما واختلفت النتائج. الكويت اليوم دولة غير منحازة، هكذا تقول عضويتها في حركة تأسست قبل 54 عاما لكنها شريك للولايات المتحدة في المنطقة وحليف اساسي من خارج «الناتو» وصديق وقّع عشرات الاتفاقات الاستراتيجية مع واشنطن.
وما ينطبق على الكويت ينطبق على السعودية ومصر والبحرين ونيجيريا مثلا، وينطبق من زاوية اخرى على كوريا الشمالية (وهي عضو في الحركة) التي تطلق كل فترة تجربة نووية تهز المحيطات وتعطي اشارات مخيفة للاستقرار العالمي وتعيد رسم العلاقة بين اميركا وروسيا والصين. كما ينطبق ايضا على ايران التي نقلت ملفها النووي الى ما وراء البحار وساهمت حتى الآن في «عدم انحياز» الاقطاب الكبار الى فكرة واحدة للمواجهة معها وامهلها الرئيس اوباما حتى سبتمبر المقبل.
الفكرة برمتها غير مفهومة الآن. ربما كانت جزءا من تكتيكات الحرب الباردة في خمسينات القرن الماضي مستفيدة من نجومية زعماء تلك المرحلة المترافقة مع حركات التحرر الوطني والزخم القومي. افرزت الحرب العالمية الثانية محورين كبيرين لكن العلاقات الدولية تغيرت اليوم تغيرا جذريا بانهيار احدهما ولم تستطع امكانات الدول الخاصة الصغيرة ان تحل مكان الحاجة الى دعم محور قوي حتى ولو كان هذا المحور بقيادة ظالمة وغير منصفة مثل قيادة الولايات المتحدة التي لم تصدق ربما المكانة التي وصلت اليها، فعمدت الى تقسيم العالم مجددا الى محورين هما «الخير والشر».
... وبين الخير والشر لا جدوى من «عدم الانحياز»، لان المطلوب هو الانحياز للخير، أما الشر فإشاراته كثيرة اهمها جدار الفصل العنصري في الاراضي المحتلة بكل ما يحمل من معاني الاحتلال والقمع واغتصاب الحقوق، وهو الجدار الذي لن تشجع واشنطن على هدمه كما حصل مع جدار برلين لأنها لا تريد لمرحلة اخلاقية جديدة ان تنمو في المنطقة.
كل مؤتمر وأنتم بخير.
جاسم بودي