الملف (3) / «الراي» تجوب شرقاً وغرباً «بعيون عربية»

تصغير
تكبير

 كم هي صغيرة في حجمها، وكم هي دقيقة في تفاصيلها، تتسع وتضيق، تبهر وتنبهر، تسحر وتنسحر، مجردة بقدر بعدها عن التجريد... فأوصافها لم تصب مقتلاً كما هي بنفاذ بسهامها. هذه قصة العين التي تجوب الأماكن الواسعة، وهي ساكنة في محجرها، فيسيل صاحبها، ان أراد وتأثر، تلك المشاهد الى كلمات حبكت جماليتها رؤية مبدعة.

«بعيون عربية» طرقت «الراي» أبواباً موصدة لخصوصيتها في الشرق والغرب، في مصر، المغرب، الجزائر، موريتانيا، الســـودان، اليمـــن، تركيـــا، فرنســـا، بريطانيــا، وكوبا، فلم يحرقها قيظ الصحراء ولم ينل منها برد الطقس وبعد السفر. كانت العين تتنقل بين جماعات وأشخاص أثارت قضاياهم الجدل، فتلخص ما تغرفه من بحر المعاينة، لتنسكب لحظات للذكرى. كل له مشكلته، كل له طريقة حياة، كل يستحضر التاريخ، وكل يفتش عن المستقبل والأمل وشذى الحياة.

جماعات وشعوب تبحث عن هويتها وسط العولمة، أحياناً تحمل السلاح، لعل في لغة البارود حلاً بدلاً من لغة الحوار، لكن غالباً من دون جدوى.

ومن بين ثنايا المشاكل تظهر الجماليات، فالمقلب الآخر للأزمات قصص تنبض بالحياة. كم هذا الانسان عظيماً عندما يطلق العنان للابداع، وكم هو ضعيفاً عندما يترك المشاكل تقيده بأصفادها. لكن يبقى لكل انسان، ولكل جماعة، فلسفة خاصة في الحياة. ولذلك تعرض «الراي» على حلقات تفاصيل رحلتها بين الأماكن التي يجمعها الانسان وتفرق بينها القضايا والحدود.


«الصحراء الغربية»... قصة وطن مستحيل


| تندوف - من سامي كليب |


فجأة نسي العرش المغربي وجبهة «بوليساريو» تاريخاً طويلاً من الصراع بينهما، وجلس وفداهما الى طاولة التفاوض برعاية الامم المتحدة في نيويورك. انفرجت أسارير منطقة لا تزال تبحث منذ اكثر من ثلاثة عقود عن حل، واستحقت بسبب طوال مدة التأزم لقب «النزاع الأفريقي المنسي».

هل تعود الصحراء الى «كنف» المملكة المغربية كما تريد الرباط؟ أم أن «بوليساريو» ستحقق حلمها التاريخي والصعب بالحصول على الاستقلال بعد «حق تقرير المصير»؟

الأرجح أن صيغة ما ستولد بغية التوفيق بين الجانبين، يحصل الصحراويون بموجبها على شيء يشبه الحكم الذاتي مع ارتباط عضوي بالعرش المغربي. هذا هو الأمل لكن تحقيقه يحتاج الى الكثير من الجولات التي ستستأنف منتصف الشهر الجاري، ولكنه بحاجة أكثر الى اتفاق تاريخي بين المملكة المغربية والجار الجزائري، ذلك ان قضية الصحراء هي جزء من معادلة اقليمية أوسع.

«الراي» كانت قد زارت الصحراء الغربية قبل استئناف الحوار بين الطرفين، في رحلة البحث عن بعض الاجابات في «الجمهورية العربية الصحراوية الديموقراطية» المقتصرة اليوم على بضعة مخيمات في منطقة تندوف تحت اشراف جزائري مباشر.


رحلة في لهيب الرمال

إنها الجغرافيا تحدد معالم التاريخ. ومن يريد الوصول الى مخيمات الصحراويين في تندوف، لا بد له أن يمر في الجزائر. تأشيرة من السفارة الجزائرية في باريس. تدخل من قبل السفير الصحراوي في العاصمة الفرنسية منعاً لكثير من الشكوك والاسئلة، ثم وصول إلى مطار هواري بومدين في العاصمة الجزائرية. نظرة من موظف الشرطة الى جواز السفر تتبعها نظرتان مشككتان الى حامل الجواز. ثم تعارف وترحيب ومصافحة، فاستكمال الرحلة الى مطار تندوف. الرحلة داخلية لكن لا بد من التدقيق مجددا في الجواز وأسباب الزيارة.

ابتسامة من بعيد تناقض بأسنانها البيضاء الوجه الذي لوحته الشمس حتى كاد يميل الى السواد. إنه محمد سالم المسؤول الاعلامي النشيط الذي لا يوفر فرصة الا ويكتب فيها للصحافيين اينما كانوا بغية حثهم على الكلام عن الصحراء. هي أزمة القضايا المنسية التي ينصفها التاريخ تارة بوضعها تحت دائرة الضوء حين تلتهب حناياها، ثم لا يلبث ان يلقي بها في سلة مهملاته.

تمخر بنا السيارة عباب الصحراء. هي من نوع «فورويل» الضرورية لاجتياز تلك المسافة من المطار حتى المخيمات. الطرق الاسفلتية موجودة في بداية الرحلة، لكنها تبدأ بالضمور شيئاً فشيئاً، تاركة للعواصف الرملية حرية إخفاء الرؤية، وكأنما رمال تلك الأرض الصعبة والقاحلة لم تعتد على الزوار. يرتفع لهيب الرمال ليتخطى 50 درجة مئوية، يطلق محرك السيارة شيئاً من أنين. ينطلق منه بخار يوحي بشدة المعاناة.

كيف يمكن لأهل هذه الأرض أن يعيشوا هنا؟ هل يعقل أن تكون الحرب التي قاربت في السابق العقد ونصف العقد بينهم وبين الجيش الملكي المغربي، قد دارت للحصول على هذا القيظ والرمال الجرداء القاحلة الموحية بأن الطبيعة أيضاً يمكن ان تمارس الجور بكل فنونه؟

يبتسم محمد سالم المتصالح مع نفسه ومحيطه الى درجة لافتة، ويبادر إلى القول: «والله منذ زمن ننتظر زيارتك، وآمل الا تخيفك هذه الحرارة المرتفعة والرمال الجرداء، بعد قليل ستجد كم ان الناس طيبون هنا وكم أنهم متعلقون بالصحراء وبأرض اجدادهم، والحياة هنا جيدة رغم صعوبة الطبيعة...».

يفتح السائق قليلاً نافذة السيارة، يمسح الغبار عن المرآة الصغيرة لتنقشع الرؤية من الخلف. تجتاح السيارة فجأة حمم الرمال. يسارع الى اغلاقها ويعتذر بتهذيب شديد، ثم يلف الغطاء على وجهه والرأس.

تتوقف السيارة عند أول حاجز. لا يظهر من وجوه الواقفين عند الحاجز سوى العيون. وجوه مقنعة بفعل الرمال وليس للاختفاء عن وجوه الزوار. ترحيب ثم اكمال الطريق خلف بضع سيارات زاخرة بالركاب ورؤوس الماعز أو بعض الحاجيات المستوردة على الأرجح من الجزائر.

«سنضعكم في قصر الضيافة»، يقول محمد سالم. والقصر عبارة عن ثلاث غرف مبنية بالاسمنت ومكيفة وامامها باحة واسعة وقنطرة وعدد من الحراس وطباخ، توحي لكنته بأنه على الأرجح من المعتقلين المغاربة عند «بوليساريو». لعل «قصر الضيافة» هو بين البيوت والخيم النادرة المتمتعة بقليل من الكهرباء، وهذا بحد ذاته انجاز كبير في تلك المخيمات. وأمام «القصر» شجيرتان خضراوان فيهما من الأبر بقدر يفوق عدد الوريقات الخضراء.

مر الليل بهدوء. دخل نسيم صباحي منعش عند الساعات الأولى للفجر. لكن المفاجئ أن ما كان أخضر في المساء امام « قصر الضيافة» بات هياكل عظمية في الصباح. اجتاح الجراد المكان، وكانت أسرابه تحجب رؤية السماء. وكأنما هذا القليل من مصادر العيش هنا ليس مقبولاً من طبيعة صب كل جورها على ذاك المكان.

يلمع من بعيد عامود معدني. يشرح الموظف، إنه تابع لبعض المنشآت الجزائرية، فالصحراء الجائرة عل السطح، تحتضن في جوفها ثروات معدنية كثيرة وخصوصاً الفوسفات وباتت الاكتشافات النفطية فيها تعد بالكثير، فازدادت الأطماع.


شيء من التاريخ

ترتاح الجغرافيا قليلاً في الفجر الصحراوي، فيطل التاريخ برأسه: من هي جبهة « بوليساريو»؟ لماذا أنشئت؟ وهل يحق لها المطالبة بالاستقلال؟ أهي راغبة فعلاً بالانفصال الكامل عن المملكة المغربية، ام ان العرش على حق حين يقول ان الصحراويين كانوا جزءاً من رعاياها ولا بد من عودتهم الى كنف «الوطن الأم»؟

والتاريخ يقول ان اسم «بوليساريو» هو اختصار لـ «الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب». والمفارقة، ألا ساقية حمراء متوافرة ولا شيء يلمع سوى الرمال. بدأت «بوليساريو» نشاطها العسكري ضد المستعمر الاسباني عبر هجوم شنته على إحدى الحاميات الاسبانية عام 1973، وأعلنت عن مؤتمرها التأسيسي في العام نفسه، وسرعان ما حصلت على مساعدات من ليبيا والجزائر. كان عون البلدين مرتبطا بالعداء للمملكة المغربية اكثر من الغرام بالصحراويين. وبعد الولي مصطفى مؤسسها، تولى محمد عبد العزيز قيادتها منذ أغسطس عام 1976، ولا يزال حتى اليوم.


رمال ودماء

«ما رأيك لو نزور المتحف العسكري»؟ يقترح المرافق الصحراوي المكلف باطلاعنا على بعض المرافق الصحراوية ذات الصلة بالصراع.

مصفحات مدمرة أمام المتحف، تظهر من بعضها سباطانات المدافع المكسرة، ومن بعضها الآخر تجويفات في الحديد، وثالثها أكله الصدأ. يوحي المنظر بمقبرة تبقى شاهدة على تاريخ من الدماء التي أهرقت من اجل اللاشيء.

وداخل المتحف، مدافع من مختلف الأنواع موزعة بشيء من الترتيب أو كثير من العشوائية حسب الزوايا. وبعض مظلات عسكرية ممزقة وثياب عسكرية مكدسة فوق بعضها البعض، وخزانتان زاخرتان بالبطاقات العسكرية.

«إنها غنائمنا من الجيش المغربي»، يقول مسؤول المتحف الذي يجرجر قدميه بصندال عتيق تماماً، كما يجرجر خلفه تاريخاً من النزاع الذي كاد يأتي على كل شيء دون ان يضمن حلاً أو بداية حل.

وما يوضحه المتحف بصورته الحديدية الفجة، يظهر بجانبه الانساني في ما بقي من تفاصيل وجه محمد ولد دادي الذي كان يوماً ما قائداً للفيلق الميكانيكي السابق في جبهة «بوليساريو». وجه فاقد لجزء من عظامه، وذقن مشطوبة من الوسط ومقطبة على عجل بحيث إن مكان القطب لا يزال حاضراً بعد مرور اكثر من 20 عاماً على تلك المعركة الشرسة التي قادها وانتهى فيها أسيراً عند الجيش المغربي.

الوجه مشوه، وكذلك الجسد، انحناءاته كثيرة، وإحدى اليدين تحمل جروح التاريخ، والقدم المصابة تكاد لا تحمل الجسد الوهن. يبتسم هذا العسكري الذي قاد معارك كثيرة قبل أن يقع في الاسر، ويروي كيف انه تعرف على وليده بعد خروجه من السجن المغربي، بينما ابنه لم يتعرف عليه. ولكنه يضيف أنه مستعد للقتال مرة ثانية اذا ما تطلب الأمر.

ليس وحده من يعرب عن الاستعداد للقتال، فهناك «الصقر» العسكري بامتياز محمد الأمين بوهالي الذي يتولى منصب وزير الدفاع. يوحي الرجل بنظرته الثاقبة المشابهة لنظرات القيادي الأفغاني الراحل شاه مسعود بأنه على استعداد للقيام بمعركة في أي وقت في حال لم يأت السلام.

«إن الحرب لم ولن تكون غاية في حد ذاتها، ونحن لم نقم بها الا بغية السلام والحصول على الاستقلال، ولكننا لن نتخلى عن شيء من مطالبنا بالاستقلال مهما طال الزمن، ومع ذلك فإننا حين يأتي السلام صريحا وحقيقيا نفتح له ابوابنا وننتظر شرط الا يطول الانتظار، لان انتظارنا السابق لم يؤد الى شيء».

الرجل لم يعرف طوال حياته سوى الجيش والقتال والعسكر، وحين كان يغادر الصحراء فلكي يذهب الى ثكنات ومعسكرات الجيش الجزائري. والجيش الجزائري كان ولا يزال واقفاً خلف «بوليساريو»، ولكنه كان يثير بعض الشكوك في نفوس الصحراويين، حين تلوح في الافق تسوية معينة بين الجزائر والرباط خصوصاً في عهد الملك الراحل الحسن الثاني. ألم يرو لنا وزير الدفاع الجزائري السابق والرجل القوي سابقاً خالد نزار كيف انه «طرد» وفد بوليساريو من مكتبه في إحدى المرات حين جاءه مطالباً باستئناف القتال؟ ألم يقل للوفد: «إن كنتم تريدون ذلك فقاتلوا من على أرضكم وليس من على الارض الجزائرية»؟

الحسن الثاني ومحمد السادس

والتاريخ يقول أيضاً إن الملك الراحل الحسن الثاني كان صاحب الفكرة «العبقرية» في قيادة شعبه بمسيرة سلمية في منتصف سبعينات القرن الماضي الى الصحراء. حمل المغاربة علم بلادهم واجتاحوا الصحراء فكان في ذلك نهاية لفلول جيش الاستعمار الاسباني. لكن الملك لم يقبل يوما، لا هو ولا أي حزب مغربي عريق، فكرة استقلال الصحراء، ومن جاهر في الاعراب عن دعم لـ «بوليساريو» كان يرمى في غياهب السجون لأعوام طوال، كما كانت الحال مثلاً مع الناشط الشيوعي اليهودي المغربي أبراهام سرفاتي.

ومع ذلك فإن الملك الراحل فتح قصره وذراعيه لوفد «بوليساريو» الذي جاءه مفاوضاً بقيادة الرجل الثاني في الجبهة بشير مصطفى سيد.

وبشير مصطفى سيد يحمل شرعيتين في شخصه، الأولى من شقيقه الولي مصطفى الذي كان القائد الأول لجبهة «بوليساريو» وسقط قتيلاً على أرض موريتانيا الذي ربما أخطأ في مهاجمتها لأنه فقد داعميه فيها، والثانية انه ابن «بوليساريو» ويمثل الجناح المعتدل فيها.

استقبل الملك بكثير من الترحيب الوفد الصحراوي. قال لهم إنهم أولاده، وبدأت سلسلة من المفاوضات المباشرة التي تخللها لقاء تاريخي بين الحسن الثاني والرئيس الجزائري السابق الشاذلي بن جديد. وكان الاتصال الاول بين الوفد الصحراوي والملك محمد السادس إيجابياً أيضاً، ذلك ان ولي العهد السابق والملك الحالي، كان هو الآخر راغباً بحل بعيداً عن الأمم المتحدة والجزائر.

ويروي بشير مصطفى السيد كيف أن محمد السادس أنب وزير داخليته السابق إدريس البصري أمام الوفد الصحراوي حين سعى البصري إلى التعالي وتوجيه بعض اللوم الخالي من اللياقات للوفد. تدخل الملك وقمع البصري، خصوصاً حين هم الوفد الصحراوي بالمغادرة قائلاً للملك: «لو كنتم في ضيافتنا لكنا عاملناكم بطريقة أخرى».


الحكم الذاتي... قليلاً

كان بشير مصطفى السيد يروي ذلك كله، قبيل أن نذهب إلى خيمة زعيم «بوليساريو» الحالي ورئيس الجمهورية الصحراوية المعلنة من طرف واحد محمد عبد العزيز. كان اللقاء واسعاً في خيمته، وضم بعض السياسيين وعدد من الشعراء والنخب المثقفة.

يعبر الصحراويون في قرارة أنفسهم عن رغبة بالاتصال المباشر بالملك محمد السادس، ويعتبرون أن التفاوض المباشر هو خير الحلول إذا ما كان الاستعداد فعلياً لدى الجميع للتوصل الى حل «وليس المجيء بحلول جاهزة».

وكان الملك محمد السادس قد بادر إلى المجاهرة بما كان يضمره والده الراحل الحسن الثاني من القبول بـ «حكم ذاتي»، لا بل شكل المجلس الاستشاري لشؤون الصحراء بغية الإشراف على هذه القضية.

واعتبرت الرباط أن خطوتها هذه التي جاءت في خطاب رسمي ألقاه الملك محمد السادس من قلب منطقة «العيون» الصحراوية، خطوة متقدمة جداً باتجاه السعي إلى الحل. لكن «بوليساريو» ومن خلفها الجزائر رفضتا ذلك، فالاقتراح الملكي يبقي الكثير من شؤون الدفاع والسياسة الخارجية وبعض المرافق السيادية في يد العرش.

يدرك الصحراويون أن «الاستقلال» الكامل قد لا يتحقق ولكنهم يريدون شيئاً قريباً جداً منه، ولا يتردد مثلاً بشير مصطفى السيد في الحديث عن علم «اتحاد المغرب العربي» في الصحراء بدلاً من العلم المغربي.

لقد نجح الملك محمد السادس في طي الكثير من جروح الماضي، فهو أنهى عهد الاعتقالات السياسية، وفتح البلاد على نسمات الحريات الاعلامية والسياسية، ونشّط الاوضاع الاقتصادية، ولم يسجن عشوائياً أو ينكل بالسجناء رغم كل ما تتعرض البلاد من عمليات إرهابية بين وقت وآخر، فهل سيكون صاحب الحل في الصحراء؟ لقد نجحت جبهة «بوليساريو» حتى الآن في «الصمود» في الصحراء والمخيمات القاحلة، ولكن أيضاً في الصمود أمام إهمال التاريخ والتقلبات الجزائرية والضغوط المغربية، فهل سينتهي الأمر بالقبول ببعض التنازلات اذا كان الحل الشامل أفضل؟

الأمل الكبير صعب في الوقت الراهن، فاستئناف المفاوضات لا يزال في بداياته الصعبة، ولكن اليأس الكبير أيضاً لم يعد له مبرر.


الدوران الأميركي والفرنسي

يحكى الكثيرون حالياً عن مصلحة أميركية كبيرة في إنهاء نزاع الصحراء، فالعلاقات الاميركية مع كل من الجزائر والمملكة المغربية جيدة، وإدارة جورج بوش تعتبر أن البلدين قادران على المساهمة في ضرب الارهاب (الاستخبارات الأميركية ترتبط وثيقاً بنظيرتها في البلدين منذ الاعتداءات على الولايات المتحدة الاميركية)، ثم إن المصالح الاقتصادية والنفطية كبيرة هناك، ناهيك عما يحكى عن الرغبة في اقامة قواعد عسكرية أميركية.

وفرنسا التي انتقلت من عهد جاك شيراك الذي تبنى كلياً الموقف المغربي من قضية الصحراء ولم يتردد في تسمية المنقطة بـ «الأقاليم الجنوبية للمغرب» (وهو تعبير مغربي يثير «بوليساريو» والجزائر)، إلى عهد نيكولا ساركوزي ستكون أكثر استعداداً للضغط باتجاه إنهاء النزاع، ليس فقط لأن المصالح كبيرة في أن يطوى هذا الملف، ولكن أيضاً لأن الرئيس الفرنسي يطمح إلى اقامة «اتحاد المتوسط» وهو يدرك ألا اتحاد في ظل نزاعات.

كل شيء يبدو مفيداً لإيجاد حل، ولكن الأكيد ان الأمر يعود أولاً وأخيراً الى شخصين لا ثالث لهما، إنهما الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة صاحب الخبرة العريقة في العمل الديبلوماسي، والذي يحفظ عن ظهر قلب كل تفاصيل قضية الصحراء، والملك محمد السادس الذي لا شك يرغب في أن تحل القضية في عهد دون أن يكون في ذلك مساس بجوهر الدولة.


أطفال وغناء وشعر

تلفظ الشمس فوق مخيمات تندوف «حممها» الأخيرة، تتراجع الحرارة قليلاً، ينبعث ثغاء الماعز من بين الخيم، يعود العمال الى الحفر التي حفروها قرب خيمهم، يرمون عليها بعض الماء، ثم يخرجون من بطنها الطين لبناء بعض البيوت التي تبقى تحت رحمة المطر المقبل. غالباً ما يهدم المطر البيوت المتواضعة ليعاد بناؤها مجدداً.

يتناثر الأطفال بأقدامهم العارية بين المخيمات. يضحكون ويبتسمون، فبعضهم من ولد مع آخر قرار للأمم المتحدة الذي دعا الطرفين المغربي والصحراوي للتفاوض المباشر، والبعض الآخر ولد أثناء زيارة جيمس بيكر الى خيم اهلهم، ولكنهم لا يعلمون عن صراع الكبار شيئاً، هم يحلمون ربما ببعض الحلوى والالعاب.

واسبانيا المستعمر السابق تعود إلى الصحراء بمساعداتها، فهي الأكثر إغداقاً لهذه المساعدات التي غالباً ما تأتي من الجمعيات الخيرية والمجتمع المدني.

والمساعدات ضرورية هنا، ذلك أن المستشفيات تفتقر إلى الكثير من الادوية، ونسبة وفاة الأطفال كثيرة وكذلك نسبة وفاة الأمهات أثناء الولادة، وفق ما روى بعض الأطباء، وهم أصلاً يعدون على الاصابع، لا بل يقال إنه في كل المناطق الصحراوية التي تقيم عليها جبهة «بوليساريو» جمهوريتها، لا يتعدى عدد الأطباء الأربعة.

لقد سعى الملك الراحل الحسن الثاني إلى اللعب على ورقة الإغراءات المادية، فمنح منطقة «العيون» الخاضعة لنفوذه تسهيلات جمركية وأقام فيها عدداً من المشاريع الاقتصادية والسياحية، وعزز حياة أهلها، ونجح في اقناع بعض قادة بوليساريو بالانشقاق والانضمام اليه وهو ما حصل فعلاً حتى مع أحد السفراء السابقين للجبهة في الجزائر، ومع ذلك فقد كانت تحصل بين فترة واخرى خصوصاً في السنوات القليلة الماضية بعض التظاهرات التي ترفع العلم الصحراوي في «العيون» نفسها.

ومع ذلك يبقى للفرح مكان، فما أن تهدأ قليلاً أصوات الأطفال ويأوون إلى فراشهم، حتى ينبعث صوت الغيثارات من تحت بعض الخيم، وتقام بين الحين والآخر سهرات فنية على المسرح الوحيد القائم في مخيمات تندوف، وتبدأ النساء المتشحات بالسواد غناء ورقصاً، يتقدمن ويتراجعن على الخشبة، وكأنهن في حركتهن تلك إنما يعبرن عن مد وجذر ذاك الصراع المنسي.

«عسى أن تعود يوماً حين نحصل على استقلالنا»، يقول بعض الصحراويين الواقفين للوداع عن تخوم المخيم، فينبعث من قلب الزائر أمل آخر: «عسى أن يعم السلام، ويستطيع هؤلاء الأطفال العيش بفرح».


مساحات وثروات

• 284 كيلومتراً مربعاً هي مساحة الصحراء الغربية ويمتد شاطئها على 1400 كيلومتر، ولها حدود برية تتخطى 2000 كيلومتر منها نحو خمسمئة كيلومتر مع المملكة المغربية وما يقارب 1600 كيلومتر مع موريتانيا.

• 1947 تم اكتشاف اكبر منجم للفوسفات في العالم في الصحراء الغربية وعرف باسم منجم بوجدور وكانت النسبة الكبرى من استغلاله قد منحت لاسبانيا المستعمرة السابقة.

• 20000 طن من الملح تستخرج سنوياً من الصحراء، بينما احتياطي الحديد يقارب 800 مليون طن.

• لم يتم اثبات الأرقام الحقيقية بعد للاكتشافات النفطية او للآمال المعلقة على هذا القطاع لكن الأكيد أن التنقيب الفعلي الذي بدأ عام 2001 ليس من النوع الذي يمكن تجاهله خصوصاً ان الشركات الأميركية والفرنسية تعمل فيه واضيفت اليها شركات دولية اخرى في الاعوام القليلة الماضية.




الصحراء والعرب


الصحراويون ينتمون بمجملهم الى قبائل بني حسان الذين لهم امتداد في المغرب وموريتانيا، وهم بالتالي يعتبرون انفسهم «عرباً أقحاحاً»، وهو ما يؤكد عليه محمد الأمين احمد الذي كان يوماً ما رئيساً للحكومة في الجمهورية الصحراوية ويعتبر أحد أدمغة «بوليساريو» والمبادر تاريخيا للاتصال بالعرب.

ويروي بكثير من خيبة الأمل عن الاتصالات الاولى لـ «بوليساريو» مع الدول العربية حيث كانت الأبواب موصدة امام الوفد الصحراوي في كل من السعودية ولبنان والسودان ومصر وتونس وغيرها، بينما تم استقبال الوفد في سورية والعراق على نطاق «حزب البعث» إما على مستوى القيادة القومية وإما القطرية، وكانت الأبواب الوحيدة المفتوحة فعلياً هي في ليبيا والجزائر.

والمرارة تظهر أيضاً في حديث محمد الأمين أحمد حين يستذكر مؤتمر شتورة الذي عقد في لبنان عام 1961 والذي رفض الاعتراف باستقلال موريتانيا من جهة واعتبر «بوليساريو» مجموعة من «القوميين الانفصاليين». آثر العرب آنذاك إرضاء مملكة الحسن الثاني.

ويقول محمد الأمين أحمد: «نحن عرب أصليون، وليست عندنا اي قومية ثانية، ولا مذهب آخر غير الإسلام، فنحن جميعاً مالكيون ومسلمون وعرب، ولكننا مع الاسف الشديد عانينا من الشرق والغرب على السواء، فالشرقيون كانوا يقولون إننا أقرب إلى الغرب أو أقرب الى الشيوعية، والغربيون يقولون إننا مع الشرقيين».

وحين يجري الحديث عن القضايا العربية، فإن الصحراويين جميعاً يقولون إن قلوبهم تنبض على وقع الانتفاضة في فلسطين والمقاومة في لبنان والعراق.

أما تاريخ الجامعة العربية في حل النزاع الصحراوي فهو على غرار كل تاريخها في معظم القضايا بحيث إن خلافات دولها تجعلها في إجازة دائمة أو في حالة شلل مريب.

(بالتعاون مع «السفير» اللبنانية)


 


أرقام وحقائق


• عام 1983 بادرت منظمة الوحدة الأفريقية لإيجاد حل للنزاع لكن المغرب انسحب منها بعد اعتراف المنظمة بالجمهورية الصحراوية بدعم جزائري.

• عام 1988 أقرت خطة الأمم المتحدة لتنظيم «استفتاء» في الصحراء لتحديد انضمام الصحراويين الى المملكة أو الاستقلال. قبلها الطرفان في البداية وتوقفت الحرب فعلياً منذ عام 1991، لكن الخلاف دب لاحقاً على من يحق له التصويت واتهمت «بوليساريو» المغرب بإرسال مجموعات غير صحراوية الى أرضها لتغيير نتائج الاستفتاء.

• عام 1988 أنشئت بعثة الأمم المتحدة للصحراء وعرفت باسم «مينورسو».

• عام 2000 كان عام التحول الدولي حيال قضية الصحراء، إذ تبنى مجلس الأمن القرار 1309 بناء على اقتراح فرنسي اميركي، وتم ارسال جيمس بيكر لإيجاد حل بعيد عن الاستفتاء. لكنه عاد خالي الوفاض.

• صيف 2003 تم تبني القرار 1495 وكان أبرز ما اخذه من مبادرة جيمس بيكر هو اقرار مبدأ الحكم الذاتي لفترة تراوح بين أربعة اعوام وخمسة أعوام يليها الاستفتاء، على أن تطلق «بوليساريو» المعتقلين المغاربة. قبلت الجبهة ومعها الجزائر الاقتراح ورفضه المغرب.

• أكثر من مرة عبر الأمناء السابقون للامم المتحدة عن يأسهم، وتم التقدم بما عرف بـ«الخيار الثالث» أي الذي يتم بعيداً عن مبدأي الاستقلال أو الضم. وفي خلال الأشهر الماضية أقر قرار جديد دعا الطرفين للتفاوض المباشر.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي