| علي الرز |
يتقن الرئيس باراك أوباما فن العلاقات العامة اكثر من الرؤساء الاميركيين السابقين، ويحسن فريقه الاستشاري تسويق افكاره وصورته بشكل متميز ووفق احدث الاساليب الاعلامية واكثرها تشويقا، واضعا كل خطوة في الاطار «التاريخي» الذي يصر سيد البيت الابيض الجديد على ان يكون في قلبه.
قبل ان ينتخب أوباما دارت ماكينة المستشارين الاعلامية والسياسية لتعبئة يهود اميركا مبشرة بخطاب «تاريخي» للمرشح الرئاسي في مؤتمر «ايباك» السنوي. وكان الخطاب آنذاك تاريخيا واستثنائيا ليهود اميركا ولاسرائيل التي كانت تحلم بسماع «كلمات ليست كالكلمات» سواء تعلق الامر بنهائية القدس عاصمة لها او لجهة اعتبار اي مساس بالدولة العبرية مساسا باميركا نفسها.
طبعا، لجم الرئيس اندفاعه لاحقا واصدر جملة توضيحات تراجعية وصولا الى الالتزام بحل الدولتين بعدما التزم الصمت تماما ابان مذبحة غزة، وتعهد ان يضع القضية الفلسطينية في اولويات عهده بعدما تركها الرؤساء السابقون الى اواسط عهودهم.
امس، اطلق أوباما خطابه «التاريخي» بعد سلسلة من الحملات التشويقية والتسويقية التي استمرت اشهرا. هل سيكون في تركيا؟ في كينيا؟ في باكستان؟ في مصر؟ في الرياض؟ هل سيتضمن مفاجأة؟ هل سيعلن عن خطوات جديدة وجدية وملموسة لفك الاشتباك السياسي والاخلاقي والامني بين اميركا وبين العرب والمسلمين؟ هل اكتفى الرئيس بمقابلته المطولة مع قناة «العربية» ام انه يجب ان يزور عاصمة عربية او اسلامية؟... سلسلة من الاسئلة التي جعلت من توقعات الخطاب تصل مستويات تقارب عربيا واسلاميا مستويات ساعات الذروة في متابعة نتائج الانتخابات الاميركية نفسها.
الخطاب حط في القاهرة. وهو في الشكل محبوك العبارة، جميل المعاني، حواري، حضاري. مدروس من حيث التركيز على صفاء النيات وتصفية المشاعر وتغييرها وتنمية العلاقات على قاعدة المصالح المشتركة... لكنه في المضمون لا يحمل اي جديد باستثناء صندوق دعم فرص العمل، بل اكثر من ذلك. لم يصل الخطاب في الحديث عن معالجة المشاكل القائمة الى المستوى الذي وصل اليه الرؤساء الاميركيون السابقون.
ماكينة التسويق التي روجت للخطاب واهميته وعناصره اسهمت امس في القول ان أوباما استشهد بآيات من القرآن الكريم واستخدم كلمات عربية واكد احترام الاسلام. ارجعوا الى كلمات الرئيس جورج بوش الابن في مآدب الافطار التي يقيمها للمسؤولين المسلمين واستشهاداته الدينية والى لقاءاته الاعلامية التي قال فيها في الاسلام ما لم يقله المسلمون انفسهم. ارجعوا الى كلمات بيل كلينتون بعد كل اجتماع او مؤتمر عن الشرق الاوسط وكيف كان يتلو من الانجيل والتوراة والقرآن... لكل رئيس علاقاته العامة وعباراته العامة وان اختلف اسلوب التسويق والتشويق.
العبرة في التنفيذ، فإن كان أوباما اكد انه سيعمل على انضاج حل الدولتين فان الرئيس بوش اعتبر ذات يوم ان الله كلفه بان يعمل من اجل حل الدولتين ناقلا الموضوع من التكليف السياسي الى الديني، اما كلينتون فكان يراهن تقريبا بسمعة ادارته من اجل الوصول الى اتفاق في الشرق الاوسط.
وأوباما «تمنى» في خطابه تجميد الاستيطان. من يذكر ماذا فعل جورج بوش الاب في هذا الموضوع؟ الم يهدد جيمس بيكر وزير الخارجية آنذاك بتجميد المساعدات لاسرائيل ونفذ جزءا بسيطا من تهديده؟ الم يرسل على الهواء مباشرة رسالة لاسحق شامير يقول له فيها ان الحديث انتهى وانه اذا اراد متابعته فليجمد الاستيطان ويتصل بالبيت الابيض على الرقم كذا؟ الم يقل جورج بوش الاب ان هذه القضية كانت سببا في خسارته للانتخابات؟
وما قاله أوباما عن ايران وافغانستان والعراق والعالمين العربي والاسلامي هو موضع اجماع على مستوى الادارات الاميركية مع اختلاف يكبر ويصغر حول التفاصيل والتطبيق والمقاربات، وهو امر طبيعي لان المواقف كانت مترافقة مع مواجهات ومعارك. لكن النقطة الفارقة التي اعتبرها المراقبون «تمييزا جوهريا» بين خطاب أوباما وغيره واعتبرها جزء كبير من العرب والمسلمين «نقطة مضيئة» هي مقاربة أوباما لقضايا الديموقراطية في المنطقة بشكل مختلف عما كانت تفعله ادارة بوش... وهكذا بات على العرب ان يخسروا المزيد من احتمالات التطور بين ادارة سيّست موضوع الديموقراطية وجعلتها جزءا من الحرب على الارهاب وتغيير الانظمة وبين ادارة وجدت في تجميد الموضوع راهنا جزءا من فك اشتباك بين اميركا والمنطقة وفضلت بدل ذلك تخديرنا بوعد الحل في فلسطين ووعد الصندوق المالي.
خطاب اوباما مدروس في تعابيره الملهمة وفي نوعية الجمهور المتلقي «الطيب» الباحث عن ضوء او شعاع صغير. فرح العرب. فرح المسلمون. ابرة التخدير الاميركية اتت هذه المرة من باراك ابن حسين... «استشهد بالقرآن»... «استشهد بكلمات عربية»... «استشهد بالحضارة الاسلامية»... «استشهد بدور المسلمين في بناء اميركا»...
رحم الله من استشهد ومن... سيستشهد.
alirooz@hotmail.com