الكويت «درة الخليج»؟ لسه فاكر... كان زمان!


وسط الأزمة السياسية التي لا تبدو نهاياتها قريبة، ووسط الصخب الانتخابي والفزعة للحريات وللقانون، ووسط لجوء الدول والمجتمعات والانظمة المتقدمة إلى التجارب الناجحة لاستلهام خطوات المستقبل... أرى لزاما علي ان اعود إلى الماضي مخالفا نداء التطور علّني اجد في بعض ثناياه اجوبة على أمس مُرّ وحاضر أمر.
موضوعان حملاني إلى تلك العودة. منفصلان في الشكل متفقان في المضمون:
الأول، اعلان قديم نشر للبنك الوطني عام 1962 فيه خريطة لدول الخليج العربي آنذاك وبينها الكويت التي كتب حولها: «الكويت في رأس الخليج العربي» ويتضمن الاعلان دعوة لتوظيف الاموال والاستثمار في الكويت ومنها إلى أي بلد آخر نظرا إلى السمعة والريادة التي حظيت بهما هذه الامارة والثقة التي أولاها العالم لاقتصادها سواء من بيوتات المال الدولية او من الدول نفسها. ويومها وصف البنك الكويت بانها «تاج على رأس الخليج».
الموضوع الثاني مقال في الزميلة «الشرق الأوسط» للاستاذ جميل الحجيلان الامين العام السابق لمجلس التعاون الخليجي واول سفير للمملكة العربية السعودية في الكويت والرجل الذي تقلد مناصب وزارية في بلاده وديبلوماسية في الخارج. عنوان المقال وحده يختصر الكثير الكثير: «كانت درة الخليج» يتحدث فيه بعمق ومباشرة عن كون الكويت اول امارة عربية خليجية تعلن استقلالها في 19 يونيو 1961 مشيرا إلى ان سبب تسميتها درة الخليج يعود بشكل اساسي إلى الآتي: «كان واضحاً أن الدولة والمجتمع، كليهما مُنفتح على الحياة، مُقبل على الأخذ بمستجداتها، دون أن يعيق هذا التوجه عائق من مواقف التشدّد في الفكر أو العقيدة».
بعد هذه البداية، وهي في ظننا مفتاح المقال، يتابع الاستاذ الحجيلان: «كانت الكويت في عام 1961 أول دولة في الخليج، وفي شبه الجزيرة العربية، يدخلها التلفزيون وتقام فيها دور سينما عامة يرتادها المواطنون بالرضى والارتياح، وتنشأ فيها حركة مسرحية على أسس مهنية راقية أشرف عليها الأستاذ زكي طليمات رائد المسرح العربي في مصر. كما كانت الفرق الاستعراضية والغنائية تدعى إلى الكويت كالمطربة فيروز وفرقة رضا المصرية للرقص الشعبي، وفرقة كركلا اللبنانية».
وربط الاستاذ الحجيلان كشاهد على مرحلة بين امتزاج هذا التسامح في التعامل مع الحياة باستثمار حسن لموارد النفط الذي اكتشف عام 1935، واستهدف خير المواطنين من خلال بناء مؤسسات اجتماعية، صحية وتعليمية، مدارس ومستشفيات ومراكز رعاية وما إليها من منشآت خدمية أخرى. هذا في وقتٍ كانت فيه إمارات عربية أخرى، في الخليج العربي، لا تزال مرتبطة بمعاهدات حماية مع بريطانيا العظمى، كما كانت في وضع اقتصادي متواضع قبل أن تدركها نعمة النفط وتغيّر أحوالها... « فقد منحتها نعمة النفط من الأهمية والثراء ما حدا بذوي الشأن والمكانة في البلاد لأن يجتهدوا في اختيار نموذج من نماذج الحكم يضمن الشفافية والمساءلة في إدارة واستثمار موارد البلاد ويؤمن تواصل التنمية والاستقرار».
انتهى الاقتباسان.
«درة الخليج» بالطبع لم تعد كذلك. انعكس الغياب المتراكم للإلهام السياسي في اتجاهات تطويرية تراجعا مستمرا للثقل الاقتصادي. لسنا في الريادة سياسيا ولا اقتصاديا وليس في الافق ما يشي بأننا سنكسر حلقة التراجع ونخرج منها الى مراتب متقدمة.
كان كل من الدولة والمجتمع «مُنفتحا على الحياة، مُقبلا على الأخذ بمستجداتها، دون أن يعيق هذا التوجه عائق من مواقف التشدّد في الفكر أو العقيدة»... اليوم الدولة منغلقة على التطور والمجتمع مقبل على مزيد من الانقسامات في الفكر والمعتقد والممارسة... وعوائق التشدد في كل المجالات هي العنوان الرئيسي للحركة العامة في البلاد.
كنا نستقبل الطلاب من كل دول الخليج في مدارسنا وجامعاتنا وها هم طلابنا اليوم بالمئات يدرسون في البحرين من دون ذكر الدول الاخرى خارج مجلس التعاون.
كان المستثمرون من كل دول الخليج يأتون الينا لتوظيف اموالهم وحتى لنستثمرها لهم في دول اخرى وها هم مستثمرونا يذهبون الى دبي وقطر بل يكلفون هيئات مالية في الامارات بإدارة اعمالهم في الخارج.
كان الخليجيون يأتون الى الاستشفاء في الكويت ويدرسون ظاهرة تطور خدمات مراكزنا الصحية وها نحن نرسل إلى المملكة العربية السعودية مرضانا للعلاج.
وكان الخليجيون يرفهون عن انفسهم وعائلاتهم بزيارة الكويت ومرافقها وها نحن نتوجه الى سلطنة عمان للترفيه والسياحة.
وهذا التخصص لا يعني على الاطلاق ان كل دولة من دول الخليج لم تتقدم في المجالات الاخرى التي لم نذكرها لكننا اوردنا امثلة محددة كانت عناوين الكويت عندما سميت ذات يوم «درة الخليج».
اذا كنا الأخيرين في التعليم والصحة والاقتصاد والسياحة فكيف نبقى درة الخليج؟ قد يقول قائل اننا نبقى بسقف الحريات السياسية وجو الحريات بشكل عام ودستورنا وطبيعة نظامنا... وهنا مربط الفرس.
ما حصل ويحصل في هذه الايام يصنفه طرف بأنه قانوني ويحذر طرف آخر من التعسف في تطبيق القانون ويرى آخرون انه «بوليسي تعسفي» لا يمت الى تقاليدنا واعرافنا بصلة. نحن طبيعيا وآليا ومن دون اي نقاش منحازون الى الحريات والديموقراطية والى المواقف المسؤولة في الوقت نفسه لان لا حرية بلا مسؤولية والانسان الحر هو الانسان المسؤول. ولكن هل وراء الاكمة ما وراءها؟ بمعنى آخر، هل هناك من يعتبر ان الوقت حان للالتفاف على الدستور والانتقاص منه وتعطيل بعض بنوده؟
الدستور ثمرة تاريخ من التجربة التعاونية المستنيرة بين الحاكم والمحكوم، قبل المجلس التأسيسي ومعه وبعده وصولا الى الانتخابات العامة بعد إقراره كمحطة انطلاق في دروب الحياة السياسية على مدى عقود. هو اشبه بشجرة شارك الكويتيون، جميع الكويتيين، في زرع بذورها وسقيها وتشذيب الاصفرار في أوراقها وأغصانها وتنميتها. واشتركوا جميعا، حكاما ومحكومين، في التنعم بفيئها وظلالها. اليوم هناك من يتسلل ويتسلق ويقفز على بعض الاغصان محاولا نشرها وقطعها املا في ان تنحسر رقعة الفيء عن جزء من المستظلين، لكنه ربما نسي من فرط حماسته او جهله انه يجلس على الغصن الذي يحاول قطعه وانه سيكون اول المتضررين واول الساقطين بسرعة وقوة إلى الارض... مرضوضا مكسورا محروما من الظل ومكشوفا على «ضربات الشمس».
الدستور نتاج تجربة تاريخية فريدة من نوعها عمرها اكثر من قرن وليس وليد ظرف سياسي نجم عن إلغاء معاهدة الحماية والظروف والتهديدات الاقليمية في ستينيات القرن الماضي. وعليه فإن سوء ادارة الخدمات العامة من اي جهة كان يبقى متاحا للتصحيح رغم تخلفنا في كل المجالات، اما الاساءة الى الدستور فهي اعتداء صريح على الثوابت الوطنية وهوية الكويت، وهي «ام الكبائر» السياسية التي لن يستقيم معها اي تصحيح لا حاضرا ولا مستقبلا.
وبما ان بعضنا ضاق بمساحة الفيء التي يستظل بها غيره تحت شجرة الدســـتور، وبما اننا نسينا ثقافة الريادة ومنطق الريادة على مختلف الصعد الاجتماعية والاقتصادية اضافة طبعا الى السياسية لأن الانغلاق انتشر في مساحات الانفتاح بمـــــســــميــــات متعددة، فالمسافة بين الكويت ومركزها الســابق درة للخـــليج ستبقى بعـــيدة، بل ربما صارت في طي النسيان او جزءا من ترنيمة: «لسه فاكر... كان زمان».
جاسم بودي
موضوعان حملاني إلى تلك العودة. منفصلان في الشكل متفقان في المضمون:
الأول، اعلان قديم نشر للبنك الوطني عام 1962 فيه خريطة لدول الخليج العربي آنذاك وبينها الكويت التي كتب حولها: «الكويت في رأس الخليج العربي» ويتضمن الاعلان دعوة لتوظيف الاموال والاستثمار في الكويت ومنها إلى أي بلد آخر نظرا إلى السمعة والريادة التي حظيت بهما هذه الامارة والثقة التي أولاها العالم لاقتصادها سواء من بيوتات المال الدولية او من الدول نفسها. ويومها وصف البنك الكويت بانها «تاج على رأس الخليج».
الموضوع الثاني مقال في الزميلة «الشرق الأوسط» للاستاذ جميل الحجيلان الامين العام السابق لمجلس التعاون الخليجي واول سفير للمملكة العربية السعودية في الكويت والرجل الذي تقلد مناصب وزارية في بلاده وديبلوماسية في الخارج. عنوان المقال وحده يختصر الكثير الكثير: «كانت درة الخليج» يتحدث فيه بعمق ومباشرة عن كون الكويت اول امارة عربية خليجية تعلن استقلالها في 19 يونيو 1961 مشيرا إلى ان سبب تسميتها درة الخليج يعود بشكل اساسي إلى الآتي: «كان واضحاً أن الدولة والمجتمع، كليهما مُنفتح على الحياة، مُقبل على الأخذ بمستجداتها، دون أن يعيق هذا التوجه عائق من مواقف التشدّد في الفكر أو العقيدة».
بعد هذه البداية، وهي في ظننا مفتاح المقال، يتابع الاستاذ الحجيلان: «كانت الكويت في عام 1961 أول دولة في الخليج، وفي شبه الجزيرة العربية، يدخلها التلفزيون وتقام فيها دور سينما عامة يرتادها المواطنون بالرضى والارتياح، وتنشأ فيها حركة مسرحية على أسس مهنية راقية أشرف عليها الأستاذ زكي طليمات رائد المسرح العربي في مصر. كما كانت الفرق الاستعراضية والغنائية تدعى إلى الكويت كالمطربة فيروز وفرقة رضا المصرية للرقص الشعبي، وفرقة كركلا اللبنانية».
وربط الاستاذ الحجيلان كشاهد على مرحلة بين امتزاج هذا التسامح في التعامل مع الحياة باستثمار حسن لموارد النفط الذي اكتشف عام 1935، واستهدف خير المواطنين من خلال بناء مؤسسات اجتماعية، صحية وتعليمية، مدارس ومستشفيات ومراكز رعاية وما إليها من منشآت خدمية أخرى. هذا في وقتٍ كانت فيه إمارات عربية أخرى، في الخليج العربي، لا تزال مرتبطة بمعاهدات حماية مع بريطانيا العظمى، كما كانت في وضع اقتصادي متواضع قبل أن تدركها نعمة النفط وتغيّر أحوالها... « فقد منحتها نعمة النفط من الأهمية والثراء ما حدا بذوي الشأن والمكانة في البلاد لأن يجتهدوا في اختيار نموذج من نماذج الحكم يضمن الشفافية والمساءلة في إدارة واستثمار موارد البلاد ويؤمن تواصل التنمية والاستقرار».
انتهى الاقتباسان.
«درة الخليج» بالطبع لم تعد كذلك. انعكس الغياب المتراكم للإلهام السياسي في اتجاهات تطويرية تراجعا مستمرا للثقل الاقتصادي. لسنا في الريادة سياسيا ولا اقتصاديا وليس في الافق ما يشي بأننا سنكسر حلقة التراجع ونخرج منها الى مراتب متقدمة.
كان كل من الدولة والمجتمع «مُنفتحا على الحياة، مُقبلا على الأخذ بمستجداتها، دون أن يعيق هذا التوجه عائق من مواقف التشدّد في الفكر أو العقيدة»... اليوم الدولة منغلقة على التطور والمجتمع مقبل على مزيد من الانقسامات في الفكر والمعتقد والممارسة... وعوائق التشدد في كل المجالات هي العنوان الرئيسي للحركة العامة في البلاد.
كنا نستقبل الطلاب من كل دول الخليج في مدارسنا وجامعاتنا وها هم طلابنا اليوم بالمئات يدرسون في البحرين من دون ذكر الدول الاخرى خارج مجلس التعاون.
كان المستثمرون من كل دول الخليج يأتون الينا لتوظيف اموالهم وحتى لنستثمرها لهم في دول اخرى وها هم مستثمرونا يذهبون الى دبي وقطر بل يكلفون هيئات مالية في الامارات بإدارة اعمالهم في الخارج.
كان الخليجيون يأتون الى الاستشفاء في الكويت ويدرسون ظاهرة تطور خدمات مراكزنا الصحية وها نحن نرسل إلى المملكة العربية السعودية مرضانا للعلاج.
وكان الخليجيون يرفهون عن انفسهم وعائلاتهم بزيارة الكويت ومرافقها وها نحن نتوجه الى سلطنة عمان للترفيه والسياحة.
وهذا التخصص لا يعني على الاطلاق ان كل دولة من دول الخليج لم تتقدم في المجالات الاخرى التي لم نذكرها لكننا اوردنا امثلة محددة كانت عناوين الكويت عندما سميت ذات يوم «درة الخليج».
اذا كنا الأخيرين في التعليم والصحة والاقتصاد والسياحة فكيف نبقى درة الخليج؟ قد يقول قائل اننا نبقى بسقف الحريات السياسية وجو الحريات بشكل عام ودستورنا وطبيعة نظامنا... وهنا مربط الفرس.
ما حصل ويحصل في هذه الايام يصنفه طرف بأنه قانوني ويحذر طرف آخر من التعسف في تطبيق القانون ويرى آخرون انه «بوليسي تعسفي» لا يمت الى تقاليدنا واعرافنا بصلة. نحن طبيعيا وآليا ومن دون اي نقاش منحازون الى الحريات والديموقراطية والى المواقف المسؤولة في الوقت نفسه لان لا حرية بلا مسؤولية والانسان الحر هو الانسان المسؤول. ولكن هل وراء الاكمة ما وراءها؟ بمعنى آخر، هل هناك من يعتبر ان الوقت حان للالتفاف على الدستور والانتقاص منه وتعطيل بعض بنوده؟
الدستور ثمرة تاريخ من التجربة التعاونية المستنيرة بين الحاكم والمحكوم، قبل المجلس التأسيسي ومعه وبعده وصولا الى الانتخابات العامة بعد إقراره كمحطة انطلاق في دروب الحياة السياسية على مدى عقود. هو اشبه بشجرة شارك الكويتيون، جميع الكويتيين، في زرع بذورها وسقيها وتشذيب الاصفرار في أوراقها وأغصانها وتنميتها. واشتركوا جميعا، حكاما ومحكومين، في التنعم بفيئها وظلالها. اليوم هناك من يتسلل ويتسلق ويقفز على بعض الاغصان محاولا نشرها وقطعها املا في ان تنحسر رقعة الفيء عن جزء من المستظلين، لكنه ربما نسي من فرط حماسته او جهله انه يجلس على الغصن الذي يحاول قطعه وانه سيكون اول المتضررين واول الساقطين بسرعة وقوة إلى الارض... مرضوضا مكسورا محروما من الظل ومكشوفا على «ضربات الشمس».
الدستور نتاج تجربة تاريخية فريدة من نوعها عمرها اكثر من قرن وليس وليد ظرف سياسي نجم عن إلغاء معاهدة الحماية والظروف والتهديدات الاقليمية في ستينيات القرن الماضي. وعليه فإن سوء ادارة الخدمات العامة من اي جهة كان يبقى متاحا للتصحيح رغم تخلفنا في كل المجالات، اما الاساءة الى الدستور فهي اعتداء صريح على الثوابت الوطنية وهوية الكويت، وهي «ام الكبائر» السياسية التي لن يستقيم معها اي تصحيح لا حاضرا ولا مستقبلا.
وبما ان بعضنا ضاق بمساحة الفيء التي يستظل بها غيره تحت شجرة الدســـتور، وبما اننا نسينا ثقافة الريادة ومنطق الريادة على مختلف الصعد الاجتماعية والاقتصادية اضافة طبعا الى السياسية لأن الانغلاق انتشر في مساحات الانفتاح بمـــــســــميــــات متعددة، فالمسافة بين الكويت ومركزها الســابق درة للخـــليج ستبقى بعـــيدة، بل ربما صارت في طي النسيان او جزءا من ترنيمة: «لسه فاكر... كان زمان».
جاسم بودي