جمع في «الديوان» معظم إنتاجه الشعري
حوار / منيف موسى: القصيدة بخير رغم التعكير والصراخ
منيف موسى
| بيروت - من إسماعيل فقيه |
الشاعر والناقد والكتاب منيف موسى لا يحتاج الى تعريف، واذا كان لا بد من كلمة في بداية حوارنا معه نقول: انه شاعر من طراز خاص، يكتب كل ما يجيش في قلبه وروحه، لا يترك للأحاسيس ان تبقى في الداخل، داخل الذات، انما يتركها تخرج، يطلق العنان لها كي تظهر الى الآخر، الى الناس، مثل عروس او وردة متفتحة تحتاج اليها كل الأذواق.
لا نغالي اذا قلنا ان موسى هو خاص ونسيج ذاته. فرغم انحيازه للقصيدة الكلاسيكية، استطاع ان يعطي لهذه الكلاسيكية نكهة جاذبة، وقصائده لا تحتاج الى تعريف.
موسى ايضاً ناقد محترف وأشرف على عشرات الاطروحات في الجامعة، هو اليوم يعيش بهدوء، يشعر ويكتب، التقته «الراي» لتتعرف على الجديد الذي طرأ على ايامه وحياته وشعره.
• نبدأ من «الديوان» كتابك الذي جمعت فيه اغلب انتاجك الشعري. لماذا الآن الأعمال الكاملة؟
- المجموعة الشعرية الجديدة (الديوان) تضمّ اعمالي الشعرية الكاملة حتى اليوم، وقد أردتها في هذه الظروف لأعيد طباعة اعمالي الشعرية النافذة وأعمالي الشعرية غير المنشورة، وذلك بناءً على رغبة عدد كبير من القراء والاصدقاء. وقد ضممت الى هذا الديوان شعري الذي انشد في غير مناسبة، والديوان، الاعمال الشعرية الكاملة، يجمع شعري في مختلف انماطه وأشكاله من القصيدة الكلاسيكية العمودية الى قصيدة النثر، مروراً بالقصيدة الحرّة.
ولفت هنا الى ان الديوان يضم مجموعة شعرية عنوانها «مهرجان النار» وهي مجموعة كتب بين العامين 1975 و1976 وغالبية قصائد هذه المجموعة موجّهة الى فلسطين، واللافت فيها كأنها كتبت اليوم في الظروف التي تمرّ بها فلسطين والاراضي المحتلة.
• يلاحظ قارئ «الديوان» الاناقة المميزة والفاخرة في شكل الكتاب. هل هذه الاناقة لها علاقة بمضمون الكتاب ام انها في غير هذا المعنى؟
- الأناقة المميزة في اخراج «الديوان» شكلاً وطباعة غايتها اسكان الشعر في قصر عظيم او كاتدرائية مهيبة. فالشعر ملك، وللملك ان يسكن في مكان مميز، والشعر عروس، وللعروس ان تتجلى في ثوب زفاف فاخر، والشعر فارس وللفارس صهوة جواد مطهّم. والشعر جمال وللجمال ان يزداد جمالاً في تكامل عناصره ومقوماته.
امّا مضمون «الديوان»، فليس ليس ان احكم له او عليه، هو شعري، وانا احب شعري. وأمّا الرأي والحكم، فهما للقارئ والناقد والمتذوق والدارس. وفي مطلق الاحوال، سواء احب الآخر شعري او لم يحبّه، أكان مقبولاً عنده ام لا، أكان أم لم يكن، فانني اشكر كل مهتمّ وقارئ وناقد ودارس ممن قرأني او يقرأني. فمن قرأني وأعجبته فقد صادقني وحمّلني مسؤوليات جديدة، ومن قرأني ولم اعجبه وقد رأى انه اضاع وقته على شعري فانني اشكره ايضاً لانه صرف وقتاً في قراءتي.
وفي كلا الحالين سأظل اكتب، وغايتي الشعر والانسان والحرية.
• جمعت مجموعاتك الشعرية في كتاب واحد، كيف ترى الفواصل الزمنية بين هذه المجموعات خصوصاً انها تنتمي الى مراحل مختلفة؟
- من طبيعة حياة الشاعر المرور بمراحل مختلفة، ومن طبيعة الاعمال الشعرية الاختلاف في المراحل الزمنية والظروف. ومن طبيعة كتابة الشعر الاختلاف في درجات الكتابة. فالشعر انسان، والانسان يمر بمراحل وأزمنة وظروف متفاوتة ومختلفة، ومهما كانت المراحل الشعرية عندي، فهي صور عني في مختلف حالاتي وأحوالي ومتغيراتي، والمجموعات التي يضمها الديوان، تشكّل الخط التطوري التصاعدي الذي نما معي وينمو. فلا فواصل في شعري، انما مراحل متدرّجة متصلة الانفاس والافكار، وهي ثابتة حيناً ومتغيرة حيناً آخر، تبعاً للثابت في اعماقي او للمتغيّر فالانسان خاضع للمناخات النفسية والمتغيرات الحياتية. القطار وحده يظلّ على سكّته وانا لست بقطار...
الذي لا يتغيّر جامد، الجماد لا حياة فيه. الجماد موت، المتغيّر حركة. الحركة حياة، الحياة حيوية ونمو، الشعر اذاً حياة وحيوية، لانه انسان، والانسان دم ونفس وفكر، والشعر دم ونفس وفكر.
• هل تجد لزاماً على الشاعر جمع اعماله كما فعلت؟
- ليس من الضروري على الشاعر جمع اعماله كما فعلت انا، ولكن ان يجمع الشاعر اعماله في مجلد واحد او غير مجلد، لا يضير الشعر، بل يصونه من التلف والضياع. والشاعر ادرى بشعره من غيره.
• مسيرتك في الكتابة ترتكز على صورة الحب والوطن والانسان، ولكن يبقى حضور المرأة في اشعارك هو الغالب، لماذا؟
- ان تكون شاعراً يعني ذلك تلقاءً انك ملتزم الحب والوطن والانسان، شرط ان تكون شاعراً ملتزماً الحياة، الحياة الحرة، الحياة الكرامة، الحياة العنفوان، الحياة الحرية. والحب هو مجموعة القيم الانسانية.
والوطن، هو بيت الانسان، وصيانة البيت وصونه فرض واجب. وكرامة البيت من كرامة ساكنه. وجاء في الامثال والاسفار: أشقى الورى قوم بلا وطن، واذلّهم شعب بلا علم. وما رأيك في انسان رعى الحياة عزّاً وكرامة وعنفواناً، وفهم الوطن ارضاً وشعباً وتلاحماً بشرياً في العيش والفكر والوجدان.
أما المرأة في شعري فهي المحور المهم، لأنّ المرأة عندي سيدة وأميرة وأم وحبيبة، وهي قرينة الحُبّ الوطن، وهي حُبّي ووطني، وهي امي وحبيبتي. وهي عندي ايضاً عطر الحياة وأنس النفس. فمن الطبيعي ان يكون حضورها في شعري كحضورها في عقلي وقلبي وفكري ووجداني، ولا تنس انني «عاشق دائم» كما اطلقت عليّ هذا اللقب سيدة راقية وأديبة فهيمة وانسانة محبّة. وفي احدى قصائدي اخاطب المرأة قائلاً: «كوني وطنيا، كوني وطنيا، كوني وطنيا».
• كتبت عن الحب في البدايات، واليوم ما زلت تكتب عن الشعور نفسه. ما الذي تغيّر في هذا الشعور عبر مسافة الزمن الممتد من القصائد الاولى الى القصائد الاخيرة؟
- سأظلّ اكتب شعر حُبّ ما بقي الحب وما بقيت المرأة. سأظلّ اكتب شعر حُبّ ما بقي في قلبي وشعوري جذوة عشق. وسأظلّ اتغنى بالمرأة ما بقي الجمال والحُبّ والحنان. وبعد، فهل اجمل من العشق وهل ارفع من الحُبّ. وليت لي ان اقبض على الزمن لأجعله في حضرة امرأة اعشقها حتى انتهاء العشق.
• ثمة حال ثورية في قصائد كثيرة من «الديوان». الى ماذا تردّ هذه الحال؟
- منذ وضعتني امي في هذه الحياة وانا في حال ثورية. الثورة تعني عندي الحرية والانسان. وشعري موقوف في ما هو موقوف عليه، على الحرية والانسان. فكيف اذا كانت الحرية معرضة دائماً للقمع والاضطهاد والتدجين. والانسان الانسان حرية، وانا مع الانسان الشريف المخلص الوفي الصادق العنفواني.
وأردّ الحال الثورية عندي الى طبع فيّ. وكأن «الجينة» معي مطبوعة على هذه الحال. والثورة لكي تكون ثورة حقيقية يجب ان تكون ثورة على الذات قبل اي شيء آخر. وهنا منتهى الرفعة والعنفوان.
• هل تعتبر ان القصيدة هي بمثابة تأريخ للشعور الانساني او هي في غير هذا المعنى؟
- القصيدة، في ما هي شعور وانسان، هي ابداع، او قل هي خلق كما من عدم. وهي، شعراً، منتهى المعرفة، ومنتهى المعرفة، ان تروح بواسطة الكدح الابجدي والشعري تنشر الجمال، والجمال غبطة. فالشعر تالياً غبطة.
والقصيدة، في ما هي معرفة، هي ذاكرة، ذاكرة فرد وذاكرة جماعة، والتاريخ معرفة، والانسان تاريخ ومعرفة. والشعور هو اختزان انساني للماضي والحاضر واستشراف للمستقبل. فالشعور، في حال المجرد وحال الماوي انسان مترجّح بين «الورائي» و«الماورائي». من هنا كان الشعور حساً وإحساساً، والحسّ والاحساس تجاذب بين الخارج والداخل، بين المادة والروح، بين الحياة والنفس. والحياة تاريخ، والنفس تاريخ، والقصيدة حياة ونفس. فهي اذاً تاريخ، من هنا هي تأريخ للشعور الانساني «الفيزيك» و«الميتافيزيك».
• امام «الديوان» كأنك تقف في وجه ماضيك وحاضرك، ماذا تشعر عندما ترى مراحل حياتك التي عبرت؟
- أمام «الديوان» ديواني، اقف امام نفسي، امام زمني، وزمني «مرايا» متعددة تعكس مراحل حياتي، في سلبياتها وايجابياتها، امام حقيقتي في وجودها وحلمها، و«مرايا» زمني المتعددة ذات الوجوه المتعددة هي واحدة عملاً بقول الشاعر:
وما الوجه غير واحد الا انه
اذا انت عدّدت المرايا تعددا
وامام ديواني، اقول ما قال يوسف غصوب:
هذي اناشيد موقّعة أنغامها الحرّي على كبدي
لا عبرة فيها ولا عظة بل صورتي صوّرتها بيدي
حالات نفس في كآبتها او في مسرّتها ولم ازد...
• كيف ترى حال الشعر اليوم، هل هو بخير، في مأزق، خارج الاهتمام؟
- رغم الكساد السائد الحياة الشعرية على الصعيد الجماهيري، ارى ان الشعر بخير. اقول كما قلت منذ زمن الشعر الشعر ليس جماهيرياً، الشعر للنخبة. الشعر للنفوس الكبيرة، للعقول الجبارة، للناس اصحاب الذائقة المهذبة.
شعر الطنين والضجيج ليس شعراً، شعر الرنّة هو الشعر. الشعر يحيا في المشادة، ويموت في الفوضى، الجماهير ليست ذوق الشعر، الكثرة العددية ليست حكماً، الحكم هو العقل النيّر والذوق الراقي والنفس الصافية. الجماهيرية غوغائية، الغوغائية ضجيج وإرهاق. الشعر فعل سلام وغبطة وخلاص، الشعر صفاء وسمو والجماهيرية تعكير وصراخ. الشعر صلاة وتأمل والجماهيرية ضوضاء وإزعاج.
• انت ناقد ومتابع لمسيرة الشعر الحديث. كيف تتعامل مع اشعارك نقداً. اقصد عندما تكتب الشعر، ماذا يفعل الناقد داخلك؟
- الناقد الذي فيّ يراقب الشاعر الذي فيّ. وهذا الناقد يقسو على الشاعر وينتقده، ويحيّيه في آن واحد، عند النقد وعند التحية. وأول اصول النقد الصحيح ان ينتقد المرء نفسه قبل نقد غيره. ولنتذكر ابداً المثل القائل من غربل الناس نخلوه.
• ماذا تعني لك الكتابة؟
- الكتابة فعل حياة، وفعل خلق وابداع. الكتابة شهوة سمو، هي ارتقاء من حيّز المجرّد الى حيّز الوجود. هي تقييد الفكر والعقل بالحرف. هي رسم الوجود ونقله الى مستوى الألوهة. الكتابة تدوين راسخ لفكر راسخ وشعر صافٍ يحمل الكون الى كون آخر خالد.
الكتابة هي اطلاق الفكر من عقاله الى حيّز التبادل العقلي الراقي والتواصل الانساني الحضاري. الكتابة فعل كلمة هي وفعل قراءة. وقراءة الكلمة هي «لوغوس» الابداع.
• كيف تفسّر معنى الشعر بعد تجربتك في الكتابة والحياة؟
- الشعر هو معنى المعنى، وهو معنى الحياة. الشعر لا يُفسّر، وليس له ان يجري عليه التفسير، الشعر كالحياة يُحيى، يُتنفّس، يُشمّ، يتغلغل في النفس كالروح في البدن.
معنى الشعر فعل حياة، ومعناه الحياة عينها. معنى المعنى هو روح الروح، والروح نسمة الحياة هي، وهكذا الشعر. والشعر تجربة دائمة، لا نهائية فيه ولا نهائية له. الشعر استمرار دائم، وبدء دائم، لذا الشعر هو معنى الحياة، ومعنى الكون، ومعنى الوجود. هو الانسان في فعل الكتابة، والكتابة في فعل الانسان. وهو في بعده الابداعي: الحقيقة والحرية والانسان.
الشاعر والناقد والكتاب منيف موسى لا يحتاج الى تعريف، واذا كان لا بد من كلمة في بداية حوارنا معه نقول: انه شاعر من طراز خاص، يكتب كل ما يجيش في قلبه وروحه، لا يترك للأحاسيس ان تبقى في الداخل، داخل الذات، انما يتركها تخرج، يطلق العنان لها كي تظهر الى الآخر، الى الناس، مثل عروس او وردة متفتحة تحتاج اليها كل الأذواق.
لا نغالي اذا قلنا ان موسى هو خاص ونسيج ذاته. فرغم انحيازه للقصيدة الكلاسيكية، استطاع ان يعطي لهذه الكلاسيكية نكهة جاذبة، وقصائده لا تحتاج الى تعريف.
موسى ايضاً ناقد محترف وأشرف على عشرات الاطروحات في الجامعة، هو اليوم يعيش بهدوء، يشعر ويكتب، التقته «الراي» لتتعرف على الجديد الذي طرأ على ايامه وحياته وشعره.
• نبدأ من «الديوان» كتابك الذي جمعت فيه اغلب انتاجك الشعري. لماذا الآن الأعمال الكاملة؟
- المجموعة الشعرية الجديدة (الديوان) تضمّ اعمالي الشعرية الكاملة حتى اليوم، وقد أردتها في هذه الظروف لأعيد طباعة اعمالي الشعرية النافذة وأعمالي الشعرية غير المنشورة، وذلك بناءً على رغبة عدد كبير من القراء والاصدقاء. وقد ضممت الى هذا الديوان شعري الذي انشد في غير مناسبة، والديوان، الاعمال الشعرية الكاملة، يجمع شعري في مختلف انماطه وأشكاله من القصيدة الكلاسيكية العمودية الى قصيدة النثر، مروراً بالقصيدة الحرّة.
ولفت هنا الى ان الديوان يضم مجموعة شعرية عنوانها «مهرجان النار» وهي مجموعة كتب بين العامين 1975 و1976 وغالبية قصائد هذه المجموعة موجّهة الى فلسطين، واللافت فيها كأنها كتبت اليوم في الظروف التي تمرّ بها فلسطين والاراضي المحتلة.
• يلاحظ قارئ «الديوان» الاناقة المميزة والفاخرة في شكل الكتاب. هل هذه الاناقة لها علاقة بمضمون الكتاب ام انها في غير هذا المعنى؟
- الأناقة المميزة في اخراج «الديوان» شكلاً وطباعة غايتها اسكان الشعر في قصر عظيم او كاتدرائية مهيبة. فالشعر ملك، وللملك ان يسكن في مكان مميز، والشعر عروس، وللعروس ان تتجلى في ثوب زفاف فاخر، والشعر فارس وللفارس صهوة جواد مطهّم. والشعر جمال وللجمال ان يزداد جمالاً في تكامل عناصره ومقوماته.
امّا مضمون «الديوان»، فليس ليس ان احكم له او عليه، هو شعري، وانا احب شعري. وأمّا الرأي والحكم، فهما للقارئ والناقد والمتذوق والدارس. وفي مطلق الاحوال، سواء احب الآخر شعري او لم يحبّه، أكان مقبولاً عنده ام لا، أكان أم لم يكن، فانني اشكر كل مهتمّ وقارئ وناقد ودارس ممن قرأني او يقرأني. فمن قرأني وأعجبته فقد صادقني وحمّلني مسؤوليات جديدة، ومن قرأني ولم اعجبه وقد رأى انه اضاع وقته على شعري فانني اشكره ايضاً لانه صرف وقتاً في قراءتي.
وفي كلا الحالين سأظل اكتب، وغايتي الشعر والانسان والحرية.
• جمعت مجموعاتك الشعرية في كتاب واحد، كيف ترى الفواصل الزمنية بين هذه المجموعات خصوصاً انها تنتمي الى مراحل مختلفة؟
- من طبيعة حياة الشاعر المرور بمراحل مختلفة، ومن طبيعة الاعمال الشعرية الاختلاف في المراحل الزمنية والظروف. ومن طبيعة كتابة الشعر الاختلاف في درجات الكتابة. فالشعر انسان، والانسان يمر بمراحل وأزمنة وظروف متفاوتة ومختلفة، ومهما كانت المراحل الشعرية عندي، فهي صور عني في مختلف حالاتي وأحوالي ومتغيراتي، والمجموعات التي يضمها الديوان، تشكّل الخط التطوري التصاعدي الذي نما معي وينمو. فلا فواصل في شعري، انما مراحل متدرّجة متصلة الانفاس والافكار، وهي ثابتة حيناً ومتغيرة حيناً آخر، تبعاً للثابت في اعماقي او للمتغيّر فالانسان خاضع للمناخات النفسية والمتغيرات الحياتية. القطار وحده يظلّ على سكّته وانا لست بقطار...
الذي لا يتغيّر جامد، الجماد لا حياة فيه. الجماد موت، المتغيّر حركة. الحركة حياة، الحياة حيوية ونمو، الشعر اذاً حياة وحيوية، لانه انسان، والانسان دم ونفس وفكر، والشعر دم ونفس وفكر.
• هل تجد لزاماً على الشاعر جمع اعماله كما فعلت؟
- ليس من الضروري على الشاعر جمع اعماله كما فعلت انا، ولكن ان يجمع الشاعر اعماله في مجلد واحد او غير مجلد، لا يضير الشعر، بل يصونه من التلف والضياع. والشاعر ادرى بشعره من غيره.
• مسيرتك في الكتابة ترتكز على صورة الحب والوطن والانسان، ولكن يبقى حضور المرأة في اشعارك هو الغالب، لماذا؟
- ان تكون شاعراً يعني ذلك تلقاءً انك ملتزم الحب والوطن والانسان، شرط ان تكون شاعراً ملتزماً الحياة، الحياة الحرة، الحياة الكرامة، الحياة العنفوان، الحياة الحرية. والحب هو مجموعة القيم الانسانية.
والوطن، هو بيت الانسان، وصيانة البيت وصونه فرض واجب. وكرامة البيت من كرامة ساكنه. وجاء في الامثال والاسفار: أشقى الورى قوم بلا وطن، واذلّهم شعب بلا علم. وما رأيك في انسان رعى الحياة عزّاً وكرامة وعنفواناً، وفهم الوطن ارضاً وشعباً وتلاحماً بشرياً في العيش والفكر والوجدان.
أما المرأة في شعري فهي المحور المهم، لأنّ المرأة عندي سيدة وأميرة وأم وحبيبة، وهي قرينة الحُبّ الوطن، وهي حُبّي ووطني، وهي امي وحبيبتي. وهي عندي ايضاً عطر الحياة وأنس النفس. فمن الطبيعي ان يكون حضورها في شعري كحضورها في عقلي وقلبي وفكري ووجداني، ولا تنس انني «عاشق دائم» كما اطلقت عليّ هذا اللقب سيدة راقية وأديبة فهيمة وانسانة محبّة. وفي احدى قصائدي اخاطب المرأة قائلاً: «كوني وطنيا، كوني وطنيا، كوني وطنيا».
• كتبت عن الحب في البدايات، واليوم ما زلت تكتب عن الشعور نفسه. ما الذي تغيّر في هذا الشعور عبر مسافة الزمن الممتد من القصائد الاولى الى القصائد الاخيرة؟
- سأظلّ اكتب شعر حُبّ ما بقي الحب وما بقيت المرأة. سأظلّ اكتب شعر حُبّ ما بقي في قلبي وشعوري جذوة عشق. وسأظلّ اتغنى بالمرأة ما بقي الجمال والحُبّ والحنان. وبعد، فهل اجمل من العشق وهل ارفع من الحُبّ. وليت لي ان اقبض على الزمن لأجعله في حضرة امرأة اعشقها حتى انتهاء العشق.
• ثمة حال ثورية في قصائد كثيرة من «الديوان». الى ماذا تردّ هذه الحال؟
- منذ وضعتني امي في هذه الحياة وانا في حال ثورية. الثورة تعني عندي الحرية والانسان. وشعري موقوف في ما هو موقوف عليه، على الحرية والانسان. فكيف اذا كانت الحرية معرضة دائماً للقمع والاضطهاد والتدجين. والانسان الانسان حرية، وانا مع الانسان الشريف المخلص الوفي الصادق العنفواني.
وأردّ الحال الثورية عندي الى طبع فيّ. وكأن «الجينة» معي مطبوعة على هذه الحال. والثورة لكي تكون ثورة حقيقية يجب ان تكون ثورة على الذات قبل اي شيء آخر. وهنا منتهى الرفعة والعنفوان.
• هل تعتبر ان القصيدة هي بمثابة تأريخ للشعور الانساني او هي في غير هذا المعنى؟
- القصيدة، في ما هي شعور وانسان، هي ابداع، او قل هي خلق كما من عدم. وهي، شعراً، منتهى المعرفة، ومنتهى المعرفة، ان تروح بواسطة الكدح الابجدي والشعري تنشر الجمال، والجمال غبطة. فالشعر تالياً غبطة.
والقصيدة، في ما هي معرفة، هي ذاكرة، ذاكرة فرد وذاكرة جماعة، والتاريخ معرفة، والانسان تاريخ ومعرفة. والشعور هو اختزان انساني للماضي والحاضر واستشراف للمستقبل. فالشعور، في حال المجرد وحال الماوي انسان مترجّح بين «الورائي» و«الماورائي». من هنا كان الشعور حساً وإحساساً، والحسّ والاحساس تجاذب بين الخارج والداخل، بين المادة والروح، بين الحياة والنفس. والحياة تاريخ، والنفس تاريخ، والقصيدة حياة ونفس. فهي اذاً تاريخ، من هنا هي تأريخ للشعور الانساني «الفيزيك» و«الميتافيزيك».
• امام «الديوان» كأنك تقف في وجه ماضيك وحاضرك، ماذا تشعر عندما ترى مراحل حياتك التي عبرت؟
- أمام «الديوان» ديواني، اقف امام نفسي، امام زمني، وزمني «مرايا» متعددة تعكس مراحل حياتي، في سلبياتها وايجابياتها، امام حقيقتي في وجودها وحلمها، و«مرايا» زمني المتعددة ذات الوجوه المتعددة هي واحدة عملاً بقول الشاعر:
وما الوجه غير واحد الا انه
اذا انت عدّدت المرايا تعددا
وامام ديواني، اقول ما قال يوسف غصوب:
هذي اناشيد موقّعة أنغامها الحرّي على كبدي
لا عبرة فيها ولا عظة بل صورتي صوّرتها بيدي
حالات نفس في كآبتها او في مسرّتها ولم ازد...
• كيف ترى حال الشعر اليوم، هل هو بخير، في مأزق، خارج الاهتمام؟
- رغم الكساد السائد الحياة الشعرية على الصعيد الجماهيري، ارى ان الشعر بخير. اقول كما قلت منذ زمن الشعر الشعر ليس جماهيرياً، الشعر للنخبة. الشعر للنفوس الكبيرة، للعقول الجبارة، للناس اصحاب الذائقة المهذبة.
شعر الطنين والضجيج ليس شعراً، شعر الرنّة هو الشعر. الشعر يحيا في المشادة، ويموت في الفوضى، الجماهير ليست ذوق الشعر، الكثرة العددية ليست حكماً، الحكم هو العقل النيّر والذوق الراقي والنفس الصافية. الجماهيرية غوغائية، الغوغائية ضجيج وإرهاق. الشعر فعل سلام وغبطة وخلاص، الشعر صفاء وسمو والجماهيرية تعكير وصراخ. الشعر صلاة وتأمل والجماهيرية ضوضاء وإزعاج.
• انت ناقد ومتابع لمسيرة الشعر الحديث. كيف تتعامل مع اشعارك نقداً. اقصد عندما تكتب الشعر، ماذا يفعل الناقد داخلك؟
- الناقد الذي فيّ يراقب الشاعر الذي فيّ. وهذا الناقد يقسو على الشاعر وينتقده، ويحيّيه في آن واحد، عند النقد وعند التحية. وأول اصول النقد الصحيح ان ينتقد المرء نفسه قبل نقد غيره. ولنتذكر ابداً المثل القائل من غربل الناس نخلوه.
• ماذا تعني لك الكتابة؟
- الكتابة فعل حياة، وفعل خلق وابداع. الكتابة شهوة سمو، هي ارتقاء من حيّز المجرّد الى حيّز الوجود. هي تقييد الفكر والعقل بالحرف. هي رسم الوجود ونقله الى مستوى الألوهة. الكتابة تدوين راسخ لفكر راسخ وشعر صافٍ يحمل الكون الى كون آخر خالد.
الكتابة هي اطلاق الفكر من عقاله الى حيّز التبادل العقلي الراقي والتواصل الانساني الحضاري. الكتابة فعل كلمة هي وفعل قراءة. وقراءة الكلمة هي «لوغوس» الابداع.
• كيف تفسّر معنى الشعر بعد تجربتك في الكتابة والحياة؟
- الشعر هو معنى المعنى، وهو معنى الحياة. الشعر لا يُفسّر، وليس له ان يجري عليه التفسير، الشعر كالحياة يُحيى، يُتنفّس، يُشمّ، يتغلغل في النفس كالروح في البدن.
معنى الشعر فعل حياة، ومعناه الحياة عينها. معنى المعنى هو روح الروح، والروح نسمة الحياة هي، وهكذا الشعر. والشعر تجربة دائمة، لا نهائية فيه ولا نهائية له. الشعر استمرار دائم، وبدء دائم، لذا الشعر هو معنى الحياة، ومعنى الكون، ومعنى الوجود. هو الانسان في فعل الكتابة، والكتابة في فعل الانسان. وهو في بعده الابداعي: الحقيقة والحرية والانسان.