الحياد الإيجابي، موضوع قديم جديد، يُطرح اليوم كأحد وسائل تجنيب لبنان وشعبه السقوط السريع للدولة، ولا سيما زوال مجدها كبوابة عبور بين الحضارات وجسر بين الشرق والغرب.مبادرة البطريرك الماروني بشارة الراعي الأخيرة وطرحه «مذكرة لبنان والحياد»، رغم صوابيتها، لم تحظ بالدعم الشعبي المطلوب، خصوصاً وأن الشعب اللبناني يرى في تردد الكنيسة المارونية في رفع الغطاء المسيحي عن الرئيس ميشال عون - أحد أبرز الخارقين لمبدأ الحياد وورقة التين لـ«حزب الله» ومشروعه التوسعي الإقليمي - نوعاً من التقاعس والتقية السياسية.ثوار السابع عشر من تشرين، ولا سيما السياديين منهم، لم يتلهوا بطرح البطريرك، كون مطالبهم تسمو على الطروحات المجتزأة لبعض الساسة المناهضين لمحور الممانعة والذين يستعملون الحياد كسلاح للضغط على جبران باسيل و«حزب الله» من أجل تحسين مغانمهم من نظام المحاصصة القائم.ولتطبيق مبدأ الحياد الذي يُروَّج له حالياً يُفترض أن تكون الدولة اللبنانية موجودة وقادرة على اتخاذ القرارات الرشيدة والتي من شأنها حماية مواطنيها وعدم تعريض حياتهم وممتلكاتهم للخطر، وهي مبادئ عامة تحكم نظرياً العقد الاجتماعي بين المواطن والحاكم «المتنور».

إلا أن أرض الواقع مغايرة تماماً، وفخامة رئيس الجمهورية و«عهده القوي» يقفان على تناقض تام في البحث عن السيادة وحتى الحياد. فميشال عون وصهره جبران باسيل ينتميان إلى مدرسة تحالف الأقليات والتي ترى في نظام بشار الأسد، حليفاً في حماية مسيحيي الشرق من خطر وجوديّ يُستغل لتبرير وإخفاء ما يقوم به بحق المجموعات الأخرى.موضوع الحياد ليس بجديد، بل هو في صميم النقاش الوطني المستمر منذ تأسيس الدولة اللبنانية الحديثة من قبل الطغمة السياسية والمالية بعد الاستقلال. فالميثاق والصيغة وكل ذلك من كتابات لميشال شيحا وأقرانه، رأت في حياد لبنان استمراراً لتاريخه المتوسطي والفينيقي الذي وفي حال استمراره يساعد في نمو قطاع الخدمات المالية والمصرفية، وهي أفكار أثبتت فشلها في خلق اقتصاد ونظام لبناني عادل ووطني.في السابق خُرق مبدأ الحياد عبر دخول الدولة اللبنانية بـ«اتفاق القاهرة» الذي وبمباركة من المؤسسة المارونية الحاكمة آنذاك، تنازل عن قسم من السيادة الوطنية بدلاً من القيام بإصلاحات دستورية تُطمئن شريحة مسلمة واسعة تشعر بالمظلومية السياسية.نَسْف الحياد على عكس المعتقد السائد، ليس نتيجة الخلاف على شؤون إقليمية ودولية كتحرير فلسطين أو تدمير الكيان الصهيوني، بل نتيجة صراع سياسي محلي سخيف بمعظمه يعكس تمسك الساسة بالشعارات الخشبية من أجل البقاء في السلطة وإن كلف ذلك دمار البصرة وما فيها.أما مأزق لبنان الحالي فهو نتيجة عدة عوامل بدءاً باغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري عام 2005، وصولاً إلى الصفقة «الفاوستية» التي جرت بين التيار الوطني الحر و«حزب الله» في ما عرف بتفاهم مار مخايل. هذا الاتفاق الذي مَنح الحزب الغطاء الماروني المطلوب من أجل اقتلاع لبنان من فلكه العربي مُكبداً الدولة خسارة شبكة الأمان المالية التي كانت تقدمها لها بلدان الخليج العربي والسعودية بشكل خاص.فميشال شيحا وهنري فرعون والعديد من الآباء المؤسسين للجمهورية اللبنانية، لم يصادفوا طبقة سياسية فاسدة كالتي تحكم لبنان اليوم. فالطغمة الحاكمة قامت بتدمير البلد بكل ما للكلمة من معنى، عبر رفضها وتعنتها في إجراء الاصلاحات البنيوية لهذا النظام العنصري السياسي الذي ينتمي إلى القرون الوسطى تحت ذرائع عدة أهمها أن سلاح «حزب الله» والمعادلة المذهبية تمنع ذلك.الحياد والنأي بالنفس، هما الخياران الوحيدان أمام اللبنانيين إن أرادوا فعلاً الاستيقاظ من الكابوس الذي يعيشونه. فعاصمتهم المدمرة لن تحييها طائرات الإغاثة، وعزلتهم الدولية لن تزيلها البوارج الفرنسية، بل إن مساعدة لبنان الحقيقية تبدأ بعد استعادة شعبه الدولة المحتلة والمخطوفة من قبل العصابة الحاكمة التي تحتمي خلف سلاح «حزب الله». الحياد بأي شكل أتى لا يمكن فصله عن السيادة والحوكمة، وأي كلام عير ذلك من شأنه تشتيت الأنظار عن المشكلة الحقيقية التي تكمن في وجود رئيس جمهورية في بعبدا يمنع الحياد، كما ويمنع الدولة من ممارسة سيادتها على كل أراضيها، ووجود طبقة سياسية مأزومة تحاول أن تعيد انتاج نفسها من خلال الدعوة إلى انتخابات نيابية مبكرة لن تكون مختلفة عن سابقتها.يقول دانتي أليغييري في كتابه «الكوميديا الإلهية»، إن «أحلك الأماكن في الجحيم هي لأولئك الذين يحافظون على حيادهم في الأزمات الأخلاقية».

فالمسألة هنا ليست مسألة الحياد السياسي المرجو بل الحياد الأخلاقي المرفوض وثقافة الخنوع التي تسود الطبقة الحاكمة والشعب، واللذان إن استمرا، سيبقى لبنان للأسف الثقب الأسود للمنطقة.