لا يَحمل رئيس وزراء العراق مصطفى الكاظمي عصا سحرية ولا يدّعي أنه يحملها. فمنذ اللحظة الأولى لتَسَلُّمه منصبه كان الرجل في قمة الوضوح بالنسبة لِما يمكن تحقيقه بين أحلام العراقيين في دولةٍ سيّدة حرّة تدير مواردَها بطريقةٍ عادلة وتطهّر الإدارة من الفساد وتحقّق تقدّماً على طريق الانصهار الوطني... وبين الإرث الذي تَسَلَّمَهُ وفيه تقريباً كل نقائض ما يحلم به العراقيون. إذا قرئت صورةُ العراق بكل تفاصيلها يمكن معرفة حجم الأثقال التي يحملها الكاظمي على كتفيْه، وإذا قرئت سيرةُ الكاظمي الشخصية بكل تفاصيلها يمكن التيقّن من أن كتفيْه قادرتان على حمْل هذه الأثقال. فما بين الصورة والسيرة علاقة نادرة، وخصوصاً إذا كان القاسم المشترك الرجل نفسه الذي التصق بالناس وحاول إعلاء صوتهم عبر مختلف المنابر السياسية والإعلامية التي تَدَرَّجَ بها، وانتهاءً بقناعاته... «استحالة انتصار دولة أو مجتمع إذا كان الإنسان فيهما مكسوراً». لا شيء مستحيلاً في عقل الكاظمي، إنما تَجاهُل التحديات التي يعيشها العراق هو المستحيل نفسه. «مروا من هنا» قبله وكانت السلطة هدفاً وغاية، ومن أجل ذلك الهدف انتُهكت كراماتُ الناس واستُبيحت أعراضُهم واغتيل مستقبلُهم ودُمِّرَتْ أحلامُهم، ومن أجل تلك الغاية صارت الأرض ورقةَ تَفاوُضٍ في بازار التسويات إن اهتزّ كرسي السلطة... كانت مساحة العراق جزءاً من مساحة الهوس الديكتاتوري، تنقص وتزيد كلما زاد سطرٌ أو نقص في كتاب «وهم القيادة التاريخية» لهذا الحاكم أو ذاك. غابتْ الدولةُ في العراق وحضرت الأحزابُ الشمولية والأيديولوجية (والديكتاتورية العائلية - الفردية) التي غلّبت السلطة على الإنسان والأرض. من صراعِ العسكر إلى البعث إلى «داعش»، مروراً بتجارب ما بعد سقوط صدام حسين وانكشاف البلد على الدمار الشامل الحقيقي الذي خلّفه حُكْمُهُ، ومن ثم دخول العراق في وليمة التسويات الإقليمية - الدولية وما تحتاجه من «وجبات» ميليشوية وطائفية تُضْعِفُ الدولةَ وسيادتَها وتُقَلِّصُ مؤسساتها وتجعل إنسانَها بالتالي مُرْتَهَناً في تحصيل حقوقه لـ «مؤسسات الأمر الواقع».أَدْرَكَ العراقيون أن البدائل عن حُكْمِ الديكتاتورية لا يمكن أن تشكل دولةً فقط لأنها كانت على الطرف النقيض من ذلك الحُكْم. هذا لا يُعْطي أحداً صكاً على بياض وخصوصاً أن هذا الصك يمكن أن يصرفه أي طرف خارجي إن كان رصيدُ المناعةِ الداخلية ضعيفاً. وأَدْرَكوا أن تَراجُعَ الدولة لمصلحة الميليشيات والتقاسم والمحاصصة لن يُنْتِج سوى الفساد والإفقار في بلدٍ يُعْتَبَرُ، حرفياً، من أغنى دول العالم إن أُحْسِنَتْ إدارةُ مَوارده. وعندما حاولوا التمرّد على هذا الواقع فوجئوا بأن كل القوى التي كانت تشلّ البلدَ بحجةِ الاختلاف والشعارات الكبيرة، تَناسَتْ خلافاتها وتَوَحَّدَتْ في جبهةٍ واحدةٍ ضدّ الناس للحفاظ على مَكاسبها من جهة ومَنْعاً لانتصار خطاب المحتجّين التوحيدي الوطني العابر للطوائف... وَقَفَ الجميع لفظياً مع الحِراك الشعبي فيما قلوبُهم ضمنياً تهلّل لكل قنّاص ملثّم يصطاد مشروعَ حلمٍ بمستقبل العراق. بين تلويناتٍ سياسيةٍ داخليةٍ مُقَسَّمة على قياس الطوائف لا على قياس البرامج، وبين سلطاتِ أمرٍ واقعٍ تُشارِكُ الدولةَ سلطاتها، وبين أطلالِ حربٍ على تنظيماتِ «دولةٍ إسلامية» رَفَعَتْ أعلامَها في جنح الظلام مع تساؤلاتٍ عن المصنع الذي أَنْتَجَ هذه الأعلام، وبين القَدَر الجغرافي الإيراني الذي انعكس كثيراً على العلاقات والسياسة، وبين الجوار الخليجي الذي زلزلتْ العلاقات معه ديكتاتوريةُ العهد السابق، وبين الأميركي الذي يَعتبر العراق نقطةَ إستراتيجيته في المشرق، وفوق ذلك، إدارة داخلية غارقة في الفساد. محاصصة. ميليشيات. أحزاب وتيارات عقائدها وقناعاتها عابرة للحدود. العلاقة بين حدود المكوّنات العراقية النفسية والحدود الجغرافية. وضعٌ اقتصادي دولي مدمّر. جائحة كورونا. انهيار أسعار النفط... وسط هذا الغيض من فيض التحديات، وصل الرجل إلى رئاسة الحكومة لتفكيك المعضلات بتعقّلٍ ورويّةٍ وفق مصلحة العراق أولاً وأخيراً، وإحالتها إلى دولةِ مؤسساتٍ وطنية عادلة يعيد إنتاجَها وتعيدُ الاعتبارَ في الوقت نفسه للإنسان العراقي الذي كان الغائبَ الأكبر عن المشاركة السياسية منذ عقود. ثقةُ العراقيين بالكاظمي تدفعه إلى حفْر الجبلِ بإبرة. صبرُه طويلٌ رغم أن الوقتَ انضمّ إلى أسلحةِ المتضرّرين من وصوله. يريد أن يضعَ القطارَ على السكة الصحيحة للعبور إلى المستقبل مهما كانت بداياتُ التحركِ صعبة. لم يدّعِ أنه يملك عصا سحريةً، لكنه يُمْسِك بعصا السلطة بِتَوازُنٍ واتزان. هذا يريده أن يكون رئيس حكومةٍ للحفاظ على «عراق ممانع»، وذاك يريده أن يكون رئيس حكومةٍ لتنظيم الرسائل السياسية والنارية بين أميركا وإيران، وثالثٌ يريده أن يندفع في مَحاور أخرى، ورابعٌ يطالبه بردٍّ متطرّفٍ على سلوكٍ استفزازي متطرّفٍ لإرباك المسار، وخامسٌ ينصح إليه بتجاوُز كل التفاصيل الداخلية والعبور إلى مشروعه دفعةً واحدة... تتوالى «الرغباتُ» الإقليمية والدولية وهو الخبير بأهدافها لكنه «يبرّدها» ويعيد توظيفَها لخدمة الرؤية التي تَوافَقَ عليها مع الحِراك العراقي، أو في أضعف الإيمان يحيّدها بأقلّ قدر من الخسائر ليتقدّم مشروعُه ولو ببطء. تفاصيلُ التحديات العراقية كثيرة. صدْر الكاظمي يتّسع متسلّحاً بدرْع الصبْر، وأكتافُه لا تنحني في مواجهتها. إنما دمعةُ طفلٍ سقط والدُه شهيدَ غدرٍ، أو حسرةُ أمٍ على فلذة كبدها، أو صورةُ جائعٍ بلا مأوى، أو انهيارُ منزلٍ على مَن فيه نتيجة صاروخٍ من «غرفة العمليات» إلى «غرفة العناية»، وحدها تحني كتفي مصطفى الكاظمي... فمشروعُه إنسانٌ، ولن يسمح لنفسه بأن يكون شاهداً على انكساره.
مقالات
أكتاف مصطفى!
08:54 م