معكرونة بالفرزدق: أهديـْتُ صديقا لي كتابي الموسوم بـ«الظواهر النحوية في شعر الفرزدق»؛ ولأني ذقـْتُ الأمريـْنِ حتى صدر هذا الكتابُ ورأى النورَ - ولاسيما - في حلـّته البهيـّة من غلاف خارجي رائع، وأناقة في إخراجه الفنـّي وطباعته - على الأقلّ - في نظري؛ أما المحتوى فلا يحقُ لي أن أتحدثَ عنه لأنه لم يعدْ ملكي؛ بل أصبح الآن ملكاً للآخرين وأعني بهم - المختصـّين - في علوم اللغة.هذا الزهوُّ في الحلّة البهيّة للغلاف والطبعة الأنيقة للكتاب جعلني أضعُ كلَّ نسخةٍ أهديها في كيس مزخرف للهدايا الثمينة ثم أقدمها للأصدقاء والأحبـّة.اتصل صديقي المعني بهذا المقال منذ الصباح الباكر وحكى لي قصة الكيس المزخرف والكتاب مع أولاده قائلاً: دخلتُ البيتَ وما أن رأى الأولادُ الكيسَ المزخرفَ الأنيقَ بيدي حتى تهافتوا عليّ الكل يريد أن يعرف ماذا بداخل هذا الكيس المزخرف؛ فمذ اللحظة راودتني فكرةٌ؛ فقلت لهم: من يعرف منكم ماذا يوجد بداخل هذا الكيس تكن له هدية من عندي؟ فرح الأولاد وتقافزوا وكانت التخمينات سريعة ومتلاحقة، مما يعكس رغباتهم فيما خمـّنوا من أشياء. قال كبيرُهم: إنه جهاز آي فون. فقلت له: أخطأت ولم تصبْ إلا رغبتك فيما خمنت. قال الآخر: إنها ملابس غطس. فقلت له: لقد أخطأت أيضا وما زال الصيف طويلاً. قال صغيرهم: إنها لعبة بلاي ستيشن 3. فقلت له: سوف تظل تحلم بها حتى تحلّ محلّها لعبة أخرى تفوقها. ومع ذلك فإنك لم تصب حقيقة ما في هذا الكيس.ثم التفتُ إلى زوجتي وقلتُ لها ألا تخمني أنت أيضا؟ قالتْ: لم يتركْ لي الأولادُ ما أخمن؛ فرغباتهم تشبع رغباتي.أخيرا قلت لهم: إنه كتاب أهداه لي صديقٌ في العمل من تأليفه بعنوان «الظواهر النحوية في شعر الفرزدق»، ثم بدأتُ أعرفهم بالفرزدق الشاعر الأموي على اعتبار أنني قرأت شيئاً يسيراً من هذا الكتاب في العمل، وحين التفت إلى أبنائي فإذا الوجوه عابسة مستنفرة، وقد خيـّم صمتٌ قاتلٌ وكأنَّ الطيرَ وقع على رؤوسهم، يبدو أنها خيبة قد أصابتهم في مقتل، فثبطـَتْ معها معنوياتي، وأحبطتْ آمال كل عربي مثقف.أردت أن أستعيد حركتهم وألطف الجو وأداعب مشاعرهم التي سكنت فجأة وأرفع هذا الوجومَ عن بشرتهم البريئة؛ فقلت لهم ملتفتا إلى أمهم: أكاد أقع من الجوع. ترى ماذا طيبتم لنا من غداء لهذا اليوم؟ فقال الصغير وبسرعة مشحوبة بغضب ساخر: «معكرونة بالفرزدق».إلى هنا انتهى حديث صديقي، فضحكنا معا، ثم أنهى المكالمة.وأنا ما زلت في «معكرونة بالفرزدق»، ونفسي تحدثني عن هذا الصغير الذي اكتشف وجبة عصرية جديدة وهو لا يدري أن الشاعر الفرزدق إنما سمي بالفرزدق ذلك لأنه أصيب بجدري في وجهـِهِ فأصبح وجهـُهُ كالفرزدقة، والفرزدقة هي: قطعة من الخبز اليابس التي تترك في الشمس حتى تيبس وتتجعد. فلعل الصغير نبهنا على قطع الخبز اليابس التي ترمى يومياً في حاويات الفضلات بكميات مهولة؛ إذ بالإمكان أن نستفيد منه بالمعكرونة للأزمات المتلاحقة التي تعصف بالعالم العربي.
* كاتب وباحث لغوي كويتيfahd61rashed@hotmail.com