لم يَعُدْ «التأنيبُ» الخارجي للسلطة في لبنان على سلوكٍ أوصل البلاد إلى الانهيار المالي - الاقتصادي، من دون مؤشرات جدية إلى رغبة حقيقية بالتراجع عنه، أمراً مفاجئاً بعدما أَغْرَقَ مسؤولون غربيون وأمميون الواقع المحلي بـ«أوصاف» تكاد أن تعكس يأساً من إمكان حصول «معجزة» تَقْلب مفاهيم إدارة الحُكْم، ولكن أن يأتي «التوبيخُ» من الكنيسةِ ومُصوَّباً «وجهاً لوجه» على أعلى ثلاثة مواقع دستورية، فهذا شكّل تطوراً مفاجئاً ومدجَّجاً بالأبعاد العميقة التي بات يكتسبها المضيّ في «الهروب إلى الأمام» وعدم بروز نيّة جدية لجعْل إنقاذ لبنان أولويةً تتقدّم على المصالح الطائفية أو المذهبية أو الحزبية أو على مشاريع عابرة للحدود باتت أكلافُها ماثلةً بوضوح على الوضع الداخلي.ففي مناسبة عيد مار مارون، خرقتْ عظةُ راعي أبرشية بيروت المارونية المطران بولس عبدالساتر في القداس الذي أقيم في الجميزة وحضره رؤساء الجمهورية ميشال عون والبرلمان نبيه بري والحكومة حسان دياب وحشد من الشخصيات السياسية «هدوء ما قبل العاصفة» المتوقَّعة غداً، في محيط البرلمان وداخله، مع بدء جلسات الثقة بالحكومة الجديدة، إذ لم يتوانَ عن دعوة هؤلاء إلى «الاستقالة» ما لم يكونوا قادرين على إصلاح الاختلالات على المستويات السياسية والمالية والاقتصادية. وتوجّه عبدالساتر الى عون وبري ودياب قائلاً «بلا قفازات»: «لأجلكم نصلي في صباح هذا العيد (...) أيها المسؤولون السياسيون تذكّروا أن السلطة خدمة. نريد ان نحيا حياة كريمة وقد تعبنا من المماحكات العقيمة (...) نريدكم قادة مسؤولين». وأضاف: «ألا يحرّك ضمائركم نحيب الأم على ولدها الذي انتحر أمام ناظريْها لعجْزه عن تأمين حاجات أولاده. ألا يستحق عشرات آلاف اللبنانيين الذين انتخبوكم أن تصلحوا الخلل في الاداء السياسي والاقتصادي والمالي، وأن تعملوا ليل نهار مع الثوار الحقيقيين على إيجاد ما يؤمن لكل مواطن عيشة كريمة وإلا فالاستقالة أشرف».وتساءل: «أوليس وقوفُ الآلاف من شبابنا امامَ ابوابِ السفاراتِ في مَسعًى منهم الى مغادرة البلاد في أسرع وقت، حافزًا كافياً لتتوقفوا يا رؤساء الأحزاب والنوابَ والوزراءَ، عن تقاذف التهم والمسؤوليات، وعن محاولاتِ تحقيقِ مكاسبَ هشةٍ، سياسيَّةٍ وغيرها، والشروعِ في التعاون معًا بجِديَّةٍ وبنظافةِ كف، من أجل إنقاذ وطنِنا من الانهيار الاقتصادي والخراب الاجتماعي؟ فماذا تنتظرون»؟وتابع: «ليس زعيماً وطنياً ولا مسؤولاً صالحاً مَن يشجع في خطابه على التعصب والتفرقة (...) الزعيم الأصيل هو الذي يختار أن يثبت في أرضه في زمن الضيق مع أهله حتى الاستشهاد (...) والزعيم الوطني هو الذي يقاوم التوطين والتجنيس للحفاظ على وجه لبنان الرسالة وعلى حق كل لاجئ ونازح بالعودة إلى بلده. والزعيم الصالح هو الذي يختار الرحيل أو التخلي عن الزعامة كل يوم مرّات على أن يخذل شعبه أو أن يسيء إليه ولو مرّة واحدة».وتابع: «نحن اللبنانيين لا نزال نصدق يا فخامة الرئيس ويا رئيس مجلس النواب ويا رئيس مجلس الوزراء، أنكم، مع من انتخبناهم مسؤولين علينا، لن تخذلونا وإلا الويل لنا جميعاً».وجاءتْ هذه العظة المُباغِتَةُ في سقفها وغير المألوفة في مضمونها المباشر عشية استحقاق بالغ الأهمية يجري رصْده باهتمام كبير وتشكله جلسات الثقة في مجلس النواب التي تبدأ غداً (ومحدَّدة الأربعاء أيضاً)، وسط تَصاعُد الإشاراتِ إلى منازلةٍ ستحصل بين القوى الأمنية المولجة ضمان أمن الجلسات وبين متظاهرين يتوعّدون النواب بـ«جدار بشري» لقفْل كل مداخل البرلمان ومنْعهم من الوصول أو من الخروج بحال نجحتْ الخطة الأمنية في توفير ممرات آمنة لمرورهم بعيداً عن «متناول» المحتجّين.وإذ استمرّ المحتجون أمس، في مسيراتٍ بالسيارات وأخرى على الأقدام في مناطق عدة، تحت عنوان «لا ثقة» في ما بدا «تحمية» (ستُستكمل اليوم) لما سيشهده الثلاثاء والأربعاء اللذان دعت فيهما مجموعات إلى إضراب عام، فإن جانباً لا يقلّ أهمية عن اعتراض الشارع صار على «الرادار» ويتمثّل بمستوى المعارضة السياسية لـ«حكومة نصف لبنان» التي وُلدت بالغالبية النيابية التي تقودها الأكثريتان الشيعية (حزب الله وحركة أمل) - المسيحية (تيار عون) وكرّستْ انتقال الواقع اللبناني، بتوازناته ذات الامتدادت الاقليمية، للمرة الأولى منذ 2005 من ضفة إلى أخرى. وما يجعل «مشهدية الثقة» تحت المعاينة اللصيقة أيضاً أنها تأتي على وهج مسارٍ متدرّج يُخشى أن تكون له تبعاتٌ على صعيد علاقات لبنان الخارجية ومساعيه لإقناع المجتمعيْن العربي والدولي بأن البلاد ستسلك درب الإصلاحات الشَرْطية لتقديم أي دعم لمسيرة الإنقاذ المالي، وبأن التموْضع السياسي للبنان لن يشهد ترجماتٍ فاقعةً لإمساك «حزب الله» بكل مفاصل الحُكْم.وفي هذا الإطار توقفت أوساط مطلعة عبر «الراي» عند كلام عون عن «أننا سنتخذ كل الإجراءات المالية الصارمة لإعادة النهوض الاقتصادي، ولأجل ذلك لسنا بحاجة لمساعدة استثنائية بقدر ما لنا الحق بأن نستعيد من الدول التي أشعلتْ الحرب في سورية، جزءاً من الـ25 مليار دولار التي تكبّدها لبنان جرّاء هذه الحرب والنزوح السوري»، متسائلة عن الوقْع الخارجي لهذا الكلام، في الوقت الذي يمْضي «حزب الله» باستهدافٍ ممنْهج لدول عربية وخليجية خصوصاً، بالتوازي مع سعيه لجعْل خيارات الإنقاذ الموجعة تحت سقف «قرار وطني جامع» تفادياً لتحمُّله وحلفائه منفردين مسؤولية هذا المسار ونتائجه شعبياً. وفي موازاة ذلك، لفت كلام مساعد وزير الخارجية الاميركي لشؤون الشرق الادنى ديفيد شينكرالذي نفى عبر تلفزيون «ام تي في»، ما تردّد عن نيته زيارة بيروت بعد نيْل الحكومة الثقة، آملاً أن يزورها «يوماً ما»، مؤكداً في الوقت نفسه إمكان إدراج حلفاء لبنانيين لـ«حزب الله» على لائحة العقوبات، لأنّ القانون الأميركي يسمح بذلك في حق مَن يدعم مباشرة الحزب الذي تصنّفه واشنطن «منظمة إرهابية».