الكلمة... تلك التي حافظ على توهجها الإنسان عبر العصور، وحرص على أن تكون لها خصوصيتها، تلك التي نشأت منها كل اللغات الإنسانية بتعددها وأشكالها، وبالتالي استخدمت تلك اللغات للتخاطب بين البشر المتشابهين في ما بينهم في اللغة، كي يسجل الإنسان انفراداً بين سائر المخلوقات من خلال قدرته على نطق الكلمة وتركيبها في جمل تعبر عنه وعما يريده من قول، وبالتالي تطورت اللغات لتساهم في تسجيل المحتوى الثقافي لكل مجتمع، وبدأت الرغبة في أن يكون هناك تميز للكلمة فاخترع الإنسان الإبداع الأدبي من خلال الشعر والقصة والرواية والنص المسرحي وغيره.وساعدت هذه الإبداعات الإنسانية في مختلف العصور والأزمنة على تنمية الفكر وتوسيع الإدراك بحقيقة الحياة وما تتضمنها من أحداث ومظاهر وحكايات وأحداث وتسجيل المواقف، وكتابة التاريخ، واستشراف ملامح الواقع، والتفاعل مع الخيال، الذي انطلقت مفرداته وأحداثه من الأساطير، ورغبة الإنسان في استكمال قبضته على ما يحيط به من موجودات، والتفاعل مع طموحاته وتطلعاته نحو تحقيق أهدافه.وعلى هذا الأساس نضج الإبداع وظهرت نخبة من الأدباء والمفكرين والمؤرخين والكُتاب أولئك الذين عمدوا لإثراء الحياة بالكتابات التي تدخل في مستوياتها ومضامينها ومدلولاتها الكلمة، بكل ما يعتمل فيها من خير وشر، وما تتمتع به من ثراء، حسب كل لغة تنطق بها.وبالتالي تفاعل الناس مع تلك الكتابات المبدعة التي تعبر عنهم وتتحاور مع أحلامهم، في صيغ أدبية مختلفة، ليحظى المبدعون باهتمامات خاصة ليس من قبل المتابعين والمترصدين لكتاباتهم فحسب، ولكن السلطة السياسية أيضاً باختلاف أشكالها ومنظوماتها، وضعتهم في مكانتهم التي تليق بهم، فتقرب منهم من تقرب وتبعد من تبعد، لتصل الأمور إلى سجن أو تصفية أو ملاحقة البعض الذي لم تكن السلطة راضية عنه، وتقريب من ترضى عنه.ومن ثم ظهرت الرقابة التي تعمل وفق أطر غير واضحة، وحسب الحياة السياسية التي يعشها المجتمع، لتتعسف وتكمم الأفواه، وتلاحق المبدعين... لقناعتهم أن الكلمة لها أثرها الكبير على نفوس الناس، فهي التي تحركهم في الاتجاه الصحيح، وهي التي تكشف لهم أحوالهم، وتضيء أحلامهم وتنمي أحلامهم، وتمهد لهم الطرق التي يستطيعون من خلالها المضي قدماً إلى تطلعاتهم ومطالبهم في حياة آمنة. هكذا... أخذت الكلمة موقعها الإنساني، لتكون هي الأساس الذي من أجله أخذت البشرية دور تعمير الأرض، وتطوير كل مساحة فيها، غير أن التطور التكنولوجي الذي خرج أيضاً من رحم الكلمة، عصف بالحياة ولم يكن في بعضه خيراً بل شر أثر على البيئة والفطرة، ليمتد تأثيره السيئ إلى الإنسان في نفسه وروحه ومشاعره وسلوكه.لنصل إلى مرحلة الفضاء الإلكتروني الواسع، وما تضمنه من خير في بعضه وشر في بعضه الآخر، فمثلنا نراه يقرب المسافات، ويعبر القارات من دون تكبد عناء السفر، ويساهم في كشف الأخبار فور وقوعها، وتوفير المعلومة بخطئها وصحتها، وغير ذلك من فوائد عادت على البشرية بالخير الكثير، وفي المقابل أصبح الإنترنت بما يطلق عليه مواقع التواصل الاجتماعي أداة سهلة للمخربين، الذين لديهم نزعات عدوانية ضد الحياة، وقليلي المواهب، الذين يطمحون إلى الشهرة والحصول على المال بطرق سهلة عن طريق التزييف والنفاق والكذب، كما أن تلك الساحة الإلكترونية أصبحت مرتعاً لضعاف النفوس من ليس لديهم أي مشاعر إنسانية تحس بآلام الآخرين، أولئك الذين يطلقون الإشاعات والأكاذيب بغية تكبد الآمنين الخسائر في كراماتهم وأحلامهم وثقتهم بالحياة.كما أن الإنترنت - بصفته مساحة مفتوحة للجمع - أدى إلى انهيار الكلمة وإضعاف دورها الريادي في الحياة، فكل من تسول له نفسه بالكتاب... يكتب، من دون أن تكون تلك الكتابات لها قيمتها الإبداعية أو الأدبية، مما فتح المجال لأن تفقد الكلمة قيمتها وتأثيرها، في ظل ما تشهده من تزاحم، وحشد للرداءة ضد الجودة، وهذا الأمر أسهم بشكل ملفت للنظر في تغيير الذوق الثقافي، وبالتالي حادت الذائقة إلى الرديء في مقابل النفور والابتعاد عن الجيد، الذي يعبر عن حقيقة الإنسان.إننا نعيش في زمن، لم تعد للكلمة فيه أي تأثير، ونقصد بالكلمة كل ما يسعى إلى خير البشرية، فالتأثير الآن للإشاعات والنفاق، والأكاذيب، والاقتراب من الشر، نحن في زمن يحصد فيه مشهد مصور يحوي مناظر لا علاقة لها بالبشرية، ملايين المشاهدات والتعليقات، بينما لا تحصد كلمة مؤثرة تخرج من فكر مبدع إلا القليل من المشاهدات.
متفرقات
قضية
تراجع الذوق الثقافي... في فوضى مواقع التواصل الاجتماعي
03:56 م