من أطرف التعليقات التي وردتني في حسابي على «إنستغرام»، تعليق لافت من صديق ومتابع استنكر تصويري لصحن كباب عراقي وامتداحه، فكيف آكل الكباب العراقي وأنا المتشدّد في تجاوز الغزو العراقي الغاشم للكويت والرافض لتسمية الغزو بـ«الصدامي» إيماناً بأنه وإن نبع من قرار صدامي إلا أنه كان غزواً عراقياً وشارك فيه بـ«مزاج عالي» عراقيون.وأزيد المتابع الصديق على ما قاله، فأكشف له أنني أيضاً لا أحبذ التجاوز الكامل عن مواقف دول «الضد» التي وقفت ضد حق الشعب الكويتي في التحرر من الغزو، وكذلك ضد نسيان مواقف «شعوب الضد» التي هتفت للغزو العراقي ولصدام إما حباً فيه أو بغضاً في الكويت وشعبها.وإن كان هذا ما يؤمن فيه الكثيرون وأنا منهم، إلا أنه لا يعني دعوة للغرق في الكراهية ولا العيش في قمقم البغضاء الخانق، بل نحن قادرون على تجاوز كل ذلك وتجاوزناه كثيراً بالفعل... ولا شيء في ذلك... لكن المطلوب هو ألا ننسى من باب الحذر وتعلّم الدروس، فالمؤمن «كيِّسٌ فطنٌ»، والمؤمنُ لا يُلدَغ من جُحرٍ مرتين، ولهذا فإن عدم النسيان يبقينا في دائرة الحذر دوماً، وهذا هو ما نرنو إليه، حفظكم الله وحفظ الكويت من كل مكروه.اللطيف في الأمر هو أن «حديث الكباب» هذا أعادني بالذاكرة أكثر من ثلاثين عاماً عندما قرأت للمرة الأولى تلك المقامة الرائعة لكاتبها بديع الزمان الهمذاني والتي كشفت عن مدى عرَاقة الكباب والشواء في الموروث العراقي، فهذه المقامة المكتوبة قبل أكثر من ألف عام والمعنونة بـ«المقامة البغدادية»، يصف كاتبها العربي المولود في همذان جمال الشواء البغدادي، حيث قال في وصفه لعملية «نصب واحتيال واسترزاق رخيص»، قال... «... ثم أتينا شوّاءً يتقاطرُ شواؤه عرقاً، وتتسايل جوذاباته مرقا... فقلت... افرز لأبي زيد - وهو ضحية النصب بالمناسبة - من هذا الشواء، واختر له من تلك الأطباق، وانضد عليها أوراق الرقاق، ورشّ عليها شيئاً من ماء السماق». ومضى الهمذاني يشرح كيف اقتطع رجل الشواء اللحم وكيف مزقه بساطوره إرباً ودقه دقاً وصنع منه شواء لذيذاً.وإن كانت تلك الحكاية تروي عرَاقة الكباب العراقي منذ ألف عام وأكثر، ولهذا من الطبيعي أن يكون متميزاً وقائداً في المائدة العربية، إلا أنها أيضاً حكاية تكشف كيف خدع الرجل ضحيته ليأكل على حسابه، وكيف أن المخدوع نفسه كان أيضاً منعدم الضمير وتصنع الموافقة ليأكل على نفقة الرجل... لكن مكر السوادي لم يهزم مكر البغدادي، فدفع السوادي ثمناً غالياً وفاز باللذات ابن بغداد.عموماً، ما علينا من هذا الكلام ولا مغازيه، فنحن نظن أن ما بين العرب والمسلمين من الخلافات كثير جداً ولا نحتاج إلى أن نصب دهن الكباب على نيران الخلافات لتشتعل أكثر وأكثر، آملين عدم محاسبة الكباب على المواقف السياسية، والتلذذ به من قبل الشعوب العربية قاطبة بعيداً عن العصبيات.وإن كنت أرجو من عشاق تركيا العثمانية عدم التعصب الأعمى للكباب التركي رغم محاسنه، فإنني أيضاً أدعو أنصار الكباب الحلبي إلى ضبط النفس مسترجعين أنهم أصل الكباب المأخوذ من الآرامية العتيقة عندما كان اسمه «كبابو»، بل وحتى الكباب الإيراني لا ضير من التلذذ به وإسناده بالأرز العابق بالزعفران والفستق والزرشك... فإن عجزت قضايانا أن تجمعنا... فلا نسمحن للكباب أن يفرقنا، والله المستعان.