رغم تَعاظُم المَخاوف في بيروت مما يُدبَّر في «الغرف السود» لخطْف «الثورة البيضاء» أو نحْرها، فإن «الخريف اللبناني» الذي فاجأ الجميع بانقلابه ربيعاً، أزهر تَمرُّداً هائلاً على الفصول المريعة لسلطةٍ تقتاد البلاد إلى الإفلاس والإفقار والاسترهان للخارج وهو تمرد، ما زال عصياً ولليوم السابع على التوالي على محاولات تشويهه وترهيبه وإحباطه وإغراقه بحملاتٍ دعائية مضادة وبـ«أصواتٍ نشازٍ».وبمعزل عن «النهايات» التي ستؤول إليها الثورةُ التي لا تشبه سواها في لبنان، فإن ما يحدث تحوّل ظاهرةً بدت فريدةً في مَظاهِرها وحجمها وتعبيراتها، استدعتْ وعلى عجلٍ محاولات لقراءة مغزى هذا «المارد» الغاضب الخارج من القمقم إلى ساحاتٍ على امتداد الجهات الأربع في لبنان، ليعلن عن احتجاجه العارم، لكن بأساليب مدْهشة تُزاوِج بين الغضب والفرح في مواجهة الائتلاف الحاكم.لا أيديولوجيات تَخُطُّ سيرَ الانتفاضة ولا «مجلس لقيادة الثورة»، وما من أحدٍ تجرّأ على انتحال صفة «أبوّتها». وما يزيد من استعصائها على أي مخطَّطٍ لكسر إرادتها انها ثورةٌ «لا مركزية» ومترامية على طول لبنان وعرْضه، وربما تملك في ديناميتها مروحةً من الأفكار التي قد تصل إلى إعلان العصيان العام ما لم يستجب القابض على زمام الأمور في البلاد لإرادة الناس، وأقلّه تشكيل حكومة انتقالية وإجراء انتخابات نيابية مبكرة.وإذا كانت بيروت دشّنتْ باكراً الربيعَ العربي بـ«ثورة الأرز» العام 2005، وكانت هي أيضاً أوّل مَن دفع أثمان الانقلاب الكبير لوأد التحولات السلمية في المنطقة، حين نجحتْ «الثورةُ المضادة» في لبنان، كما في سورية وغير ساحة، فإن خروجَها الآن من تحت الرماد بنزول أكثر من نصف سكان البلاد إلى ساحات العاصمة وكبريات المدن، يجعلها تجدّد شباب «روحَها الثائرة» عبر جيلٍ جديد لا يمتّ بصلة لمَن أكَل «ثورة الأرز»، من أبنائها وخصومها على حد سواء، فتلتحق بالربيع العائد من الجزائر والخرطوم، والذي يكافح في بغداد تحت عناوين من النوع الذي يُعْلي القضايا البدهية كـ«لقمة العيش» والكرامة الفردية والوطنية.... «كلن يعني كلن»، هو الشعار الذي تُرَدِّدُهُ الحناجر المليونية غير المسبوقة التي ضاقت بها الساحات في بيروت، وفي المناطق ذات الغالبية السنية كطرابلس وصيدا، والشيعية كصور والنبطية وبعلبك، والمسيحية كالزوق وجبيل وجل الديب والأشرفية وزحلة، والدرزية مثل كفرحيم وعاليه... وإذا كان المرء مضطراً لاعتماد التصنيف الجغرافي الطوائفي، فإن صوتاً واحداً يصدح من تلك الساحات...«أنا لبناني وبس».وبهذا المعنى فإن اللبناني الذي لم يرفع سوى علم بلاده، بدا أنه قرّر التمرد على المربّعات الطائفية التي كادت أن تتحول «معتقَلات» للمواطنين عبر سياسة التخويف المتبادَلة وإيقاظ عصبياتٍ مرّ عليها الزمن وربْطهم بشبكاتٍ زبائنية لإبقائهم تحت السيطرة ليصار إلى التحكم بهم بـ«الريموت كونترول» في إطار مشاريع تتصل إما بالصراع على السلطة وإما بمَحاور إقليمية جرّتْ الويلات على لبنان.والسؤال الذي لا مفرّ منه، ويدور على كل شفة ولسان، ما الذي دفع باللبنانيين إلى كسْر طوق الخوف والتردد والانتقال من خلف السوشيل ميديا إلى الميادين؟... شيء من خليط الاقتصاد والسياسة يمتدّ إلى ما قبل الانتخابات الرئاسية العام 2016 بلغتْ تفاعلاتُه أخيراً الحدّ الذي طفح معه الكيل، وشكّلت الضريبة على«الواتساب» الشرارة التي أشعلت الاحتجاجات على الواقع القائم برمّته.ولم يسبق أن شهد لبنان ما هو أسوأ مما يعيشه منذ التسوية الرئاسية التي جاءت بالعماد ميشال عون رئيساً للجمهورية العام 2016، وهو الثمانيني الذي أعلن منذ اللحظة الأولى التي وطأت قدماه قصر بعبدا أنه لا يطمح إلى تمديد ولايته (6 سنوات) لكنه يعمل على تحضير خليفته، وفُهم يومَها أنه يقصد صهره، أو ابنه الذي لم يلدْه، الوزير جبران باسيل الذي كان ورث عنه رئاسة «التيار الوطني الحر» وتحوّل سريعاً الوزير الأول أو «رئيس الظل».فالتسويةُ كرّستْ تحالفاً بين ثلاثة أطراف رئيسية: فريق عون، زعيم تيار «المستقبل» رئيس الحكومة سعد الحريري، و«حزب الله»... تَحالُفٌ غير متكافئ أداره الحزب «الاستراتيجي» على إيقاع مشروعه الإقليمي وبقوة نفوذه الداخلي كـ«ناظِمٍ» سياسي - أمني يقبض على لبنان.ولأنه لا يمكن فصل الاقتصاد والمال عن السياسة وإدارة الحُكْم فإن ترتيب المسؤوليات عما آلت إليه الأوضاع في لبنان تحت شعار «كلن يعني كلن» يقتضي عدم تجهيل «الفاعل الأساسي»، الذي قادَ «الثورةَ المضادة» بعد رحيل الوصاية السورية في الـ2005، حين ساد منطق الانقلاب على الدولة وآليات تداول السلطة وترويض الوقائع السياسية بفائض القوّة وبناء تحالفاتٍ قائمة على «المقايضة» التي تُشْبِه «الرشوة» بين الفساد والتسلّط والسلاح غير الشرعي.في زيارةٍ «استطلاعية» لمركزيةِ الثورة في ساحتيْ رياض الصلح والشهداء، نظراً لرمزيّتهما، كان مُدْهِشاً وهائلاً ليس ضخامة الحشود وشبابيّتها وفائض الغَضَب الذي ينفجر فرَحاً بسقوط جدار الخوف وحسب، بل حجم السخط على باسيل الذي يَتَعاطى المحتجّون مع اسمه كـ«اختزالٍ» للسلطة «في مفهومها الجائر والقبيح والانتهازي» كما يرددون في تبرير هتافاتهم، وهو السخط الذي يتردّد صداه في كل زوايا الأمكنة في قلب الانتفاضة وعلى ألسنة الكبار والصغار وغالباً من دون توقف أو رأفة، وفي خروج عن المألوف الذي تعودنا عليه في تظاهرات من النوع الذي يتحايل على الغضب لمراعاة اعتبارات اجتماعية أو«أخلاقية». ولم يعد من الصعب بعد زيارة الساحات في وسط بيروت اكتشاف كم هو مكروهٌ الوزير باسيل، الذي بدا على مدى الأعوام الثلاثة الماضية «شاغل الدنيا ومالئ الناس» في سلوكٍ، كان يتم التعاطي معه من غالبية القوى السياسية في بيروت على إنه استفزازيّ، لكنه يستمدّ قوته من القصر ومن «حزب الله» الذي تعامل معه على إنه «الحصان الرابح» في السباق إلى الرئاسة والمؤهّل للمضي في تغطية خيارات الحزب وسلاحه، وخصوصاً بتورُّطه في ساحات المنطقة.وربما لم تكن مصادفة خروج باسيل من اجتماعٍ لأكثر من سبع ساعات مع الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله، مهدِّداً بقلب الطاولة على شركائه في الائتلاف الحكومي حتى ولو اقتضى الأمر تطيير الحكومة، وسط تسريباتٍ فاضتْ بها وسائل الإعلام اللبنانية وفُهم منها أن ثمة مرحلةً جديدةً تطلّ على لبنان بعد خروج الأميركيين من سورية عنوانُها المواجهة مع الولايات المتحدة، وبدأتْ بتلويح «حزب الله» بالنزول إلى الشارع في تحرّك ضد المصارف على خلفية العقوبات الأميركية والاتجاه لإقصاء مكوّنات حكومية يتم التعاطي معها على أنها حليفة واشنطن كـ«الحزب التقدمي الاشتراكي» و«القوات اللبنانية»، وسط مداولاتٍ عما إذا كان رئيس الحكومة الحالي سعد الحريري «فَقَدَ وظيفته» كمُحاور موثوق مع واشنطن في لحظةِ الانتقال إلى مربّع المواجهة مع الولايات المتحدة. وكانت كثيرة المعلومات التي تحدثت عن أنه جرى التداول بـ«بدلاء» عن الحريري، ما دفع بعض الذين راجت أسماؤهم إلى التحرّي عن حظوظهم، في حين قيل الكثير عن أن باسيل قرّر التموْضع تماماً إلى جانب «حزب الله» وخياراته بعدما قدم تبريرات لسلوكٍ أثار «نقزةً» محور المقاومة في بعض المراحل... وهو التموضع الذي تَكَرّس بعد مقدّمات تمثلت في وقوف الدولة بكافة مرجعياتها خلف «حزب الله»، ومن بينها الحريري بعد هجوم المسيّرتين الإسرائيليتين على الضاحية الجنوبية، ما مكّن نصرالله من الوقوف مهدداً بالحرب في حال تعرّضت إيران لأي عدوان.كل هذا حدث في اللحظة التي انزلق فيها لبنان إلى انهيار مالي اسمه الحركي «شح الدولار» دون إدراك مَن في يدهم «الحل والربط» خطورة المشهد الذي تدرج من خلف ظهر الجميع انفجر في وجه الجميع و«قلَب الطاولة» على مَن هدّد بها وعلى سواهم... ولهذا سارع نصرالله الذي فوجئ بأن الأمور قد تخرج عن السيطرة إلى رسْم خط أحمر حول الحكومة والعهد ملوِّحاً بـ«شارعٍ يقْلب المعادلات».
افرام يلمح لاستقالةٍ مؤجَّلة من تكتل باسيل
| بيروت - «الراي» |
كأنها «استقالة مع وقف التنفيذ»، أعلنها النائب نعمة افرام من التكتل النيابي المُوالي لرئيس الجمهورية ميشال عون («لبنان القوي» برئاسة الوزير جبران باسيل).وجاء تلميح افرام (نائب كسروان) إلى الاستقالة رداً على مطالب الشعب، خلال انضمامه إلى المتظاهرين أمس، في منطقة الذوق، فيما كان الجيش اللبناني يحاول فتْح الطريق المقطوعة هناك بالقوة وسط ممانعة كبيرة من المحتجين.ومع وصول افرام، علتْ صيحاتُ «كلن يعني كلن» وسط رفْض لوجوده باعتبار أنه من تكتل «لبنان القوي» الذي يشكّل رئيسه (باسيل) «الهدف» الأبرز للاحتجاجات في مختلف الساحات.وتحت وطأة الاعتراضات، حاول افرام مخاطبة المتظاهرين مؤكداً أنه سبق أن حذّر مراراً من أن استمرار السياسات نفسها سيوصل إلى الانفجار.وأوضح «لن أستقيل من مجلس النواب، أما من التكتل فهذا الموضوع لن أعلن القرار في شأنه، وربما أكون قد اتخذتُه من هنا، بل في اجتماع التكتل، وتبعاً للتطوّرات في اليومَيْن المقبِلَيْن».
نداء القادة الروحيين المسيحيين: لاحتضان الانتفاضة المشروعة وتعديل وزاري
| بيروت - «الراي» |
حَمَل نداءُ مجلسِ البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان أمس، إشاراتٍ لا لُبس فيها إلى دعْم «الانتفاضة الشعبية التاريخية والاستثنائية»، داعياً إلى «حمايتها وأن يتجاوب الحُكْم والحكومة مع مطالبها الوطنية»، ومطالباً بتعديل وزاري «فيؤتى بأصحاب الكفاءات والصدقية والنزاهة»، وبأن يدعو الرئيس ميشال عون «فوراً لمشاورات مع القادة السياسيين ورؤساء الطوائف لاتخاذ القرارات اللازمة بشأن مَطالب الشعب».وجاء هذا الموقف بعد الاجتماع الاستثنائي لمجلس البطاركة في بكركي برئاسة البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي (ومشاركة بطاركة وممثلين عن الكنيسة الارثوذكسية) الذي تلا النداء معلناً «اجتمعنا للنظر في الحالة الوطنية التي تستدعي مواكبة تطوراتها، بل التحوّلات، منعاً لانزلاق البلاد في مسارات خطيرة تنقض جوهر الوجود اللبناني وهويته».ودعا «النداء» إلى «احتضان انتفاضة أبنائنا المشروعة وأن يتجاوب الحُكْم والحكومة مع مَطالِبها الوطنية ومنها: حكْم ديموقراطي، حكومة ذات صدقية، قضاء مستقل وعادل، أداء شفاف، حياد عن الصراعات، تطبيق اللامركزية الإدارية، بسط سلطة الشرعية دون سواها، مكافحة الفساد، استرداد الأموال المنهوبة بقوانين نافذة، تأمين التعليم وفرص العمل (...)».وإذ اعتبر أنه «حان الوقت كي تلبي الدولة المطالب المحقة لتعود الحياة الطبيعية إلى البلاد»، خاطَب «النداء» الشعب اللبناني المنتفض طالباً «أن يحافظ على نقاء تحرّكه وسلميته، وأن يمنع أي طرف من أن يستغلّ صرخته ويحوّلها حركة انقلابية، ويشوّه وجهها الديموقراطي».