تَعَرَّفْتُ على الزميل بشارة شربل منذ 30 عاماً في لندن. تَجاوَرْنا في مكاتب صحيفة «الحياة» وفي الحياة. صديقٌ ورفيقٌ وشقيقٌ يسْكنه الوفاء في أفضلِ بنيان. أجزم بأنه من قلّةِ الذين لم تتغيّر مواقفهم مهما تَداوَرَتْ العقود، فمواضيع السيادة والحريات والحقوق والديموقراطية أبجدياتُ قاموسِه، ولا مجال هنا للحديث التفصيلي عن الصداقات التي خسِرها والأبواب التي أُقْفِلَتْ أمامه بل وحتى الطرود المُفَخَّخَة التي تَلَقّاها نتيجة التزامه تلك الأبجديات... ومع ذلك كان يتابع الطريق بهدوء «المُسْتَفِزّ» وابتسامة القادِر.المشكلةُ ليست أن أتذكّر بعض ما في هذه المسيرة، سواء تَعَلَّقَ الأمرُ به أو بالمواقف المشترَكة بيننا. المشكلةُ في ما لا أتذكّر. فخلْف هدوءِ بشارة «المُسْتَفِزّ» يومياتٌ صاخبةٌ ومُشاكَسَةٌ تُضْفي حضوراً مختلفاً على أي مُناسَبَةٍ وتترك انطباعاً عند المسؤول والمتلقّي على حد سواء بضرورةِ استمرار هذا الحضور.هل أتذكّر في تسعينيات القرن الماضي عندما طَلَبَ وزير الإعلام اللبناني ميشال سماحة من سفير لبنان السابق في لندن محمود حمود عدم منْحنا فرصةً للكلامِ بعدما قال له بشارة في لقاءٍ إعلامي عام ضمّ عشرات الزملاء إن المقاومةَ صِلَتُها الحقيقية بإيران لا بلبنان؟ سماحة، الذي كاد ينْفجر غَضَباً من مداخلاتِ بشارة، أصبح لاحقاً سفير علي مملوك في لبنان وكاد يفجّر (حَرْفِياً) لبنان. أتذكّر لقاءً مُماثِلاً بالراحل الكبير الشهيد رفيق الحريري الذي كان يتحدّث في ملتقى إعلامي - اقتصادي - سياسي في لندن عن الإصلاحات والإعمار والسياحة وضبْط حركة الدخول إلى لبنان، عندما سأله بشارة: دولة الرئيس عندما يدْخل أحمد جبريل إلى لبنان ويتفقّد معسكرات تنظيمه، هل يحصل على تأشيرةٍ؟ فردّ رحمه الله: «أنا لا أرى جوازَ سفره». ضجّت القاعةُ يومَها بصيحاتِ الاستنكارِ من السؤال، لكن الشهيد الكبير قال إن هذه الأسئلة يجب أن تُطْرَح.وعندما كانت إيران مَحْشورَةً في إحدى المبارزاتِ الدولية، وما أكثرها، وطلبتْ من «حزب الله» دَعْماً عاجِلاً عبر الحرب التي سُمِّيَت «عناقيد الغضب»، كَتَبْنا تحليلاً مُشْتَرَكاً وَضَعَ له بشارة عنوانه ربما كان: «هل أَفْلَتَ الصاروخُ الإيراني من ساعةِ الضبْط السورية؟». يومَها كادتْ الحربُ أن تنتقل من بيروت إلى الصحيفة. اتصالاتٌ رسميةٌ وبالواسطة من نصف الحكومة ورؤساء الأحزاب وتحذيرٌ من تهديداتٍ وتعظيمٍ وتهويلٍ لحجم «الجريمة» التي ارتُكِبَتْ بهذا العنوان. وأتذكّر يومها أن الجنرال المنفي آنذاك الرئيس ميشال عون كان الأكثر فَرَحاً بالعنوان بل وشَرَحَ لنا تعريفاته التقنية العسكرية. ودارتْ الأيام وأصبحتْ سورية والعراق ولبنان وغزة واليمن وجزء من أفغانستان عقاربَ في الساعة الإيرانية. وعلى سيرة الرئيس عون، كان التَلاقي الهاتفي والشخصي معه في فترةِ مَنْفاه جزءاً من يومياتنا، يُواكِبُها النائبُ الحالي الذي كان منحازاً دائماً للحريات وخصوصاً الإعلامية ابراهيم كنعان، وكانت اللقاءاتُ والتصريحاتُ الإعلاميةُ التي يُجْريها مطلق «حرب التحرير» تُزْعِجُ الحكومةَ اللبنانيةَ وجميع أقطاب المُمانَعَةِ الحاليين. ولطالما تَلَقّى بشارة «نصائح» خبيثة وحميدة من مغبّة تحويل الصحيفة منبراً لمواقف الجنرال الداعِمة للسيادة اللبنانية والاستقلال والحريات العامة وتحذيراته المتكرّرة (يمكن العودة إليها) من مغبّة قيام «حزب الله» بأعمال تُوَرِّطُ لبنان داعياً إلى حصْر قرار الحرب والسلم في يد الحكومة والجيش فقط. أَطْلَقَ الجهازُ الأمني السوري - اللبناني الذي تَحَكَّمَ بالبلاد والعباد أَشْنَعَ الاتهامات علينا، فكنا ننام عملاء للاستخبارات الأميركية ونستيقظ عملاء للموساد... وكان بشارة يردّ على ذلك دائماً بهدوئه المُسْتَفِزّ وعبارته الأكثر استفزازاً: «ما في قضية، ما في مشكلة».في كل موقعٍ عملَ به بشارة لاحقاً، لبنانياً أو خليجياً، كان هو هو، ولن أتابع تفاصيل المواقف المبدئية المتعلّقة بليبيا القذافي أو عراق صدام أو سورية الأسد أو بالإرهابيين والبيئة الحاضنة التي «فرّختْهم»، فالتفاصيل كثيرة لكن مسْطرته كانت واحدة.بشارة شربل مَثُلَ، وسيمْثل أمام القضاء اللبناني لأنه استنكر بتعبيراته الإعلامية إعلانَ مَن بيده قرار الحرب والسلم في لبنان الولاءَ والوفاءَ لمرشد الجمهورية الإسلامية علي خامنئي والاستعدادَ لتنفيذِ أيّ أمرٍ يُعطى له بما في ذلك حرْق لبنان والمنطقة إن شَنَّتْ أميركا حرباً على إيران. وكيف لا تكون «جمهوريةُ الخامنئي» كما جاء في عنوان «نداء الوطن» التي يرأس تحريرها؟ رأفَ الرجلُ بنا وشبّه لبنان بإيران «القوية» حسب قناعةِ أركان الحُكْمِ ولم يشبّهها بـ«الفاطميون» و«الزينبيون» و«خراسان» و«الحشد» وما إلى هنالك من مُمانِعين.تبقى كلمة إلى الجوْقة العظيمة المحيطة بالرئيس ميشال عون. ليْتكم تعيدون قراءةَ مواقف وآراء الجنرال التي نُشِرَتْ من خلال المقابلات التي أجْراها بشارة معه أو التصريحات التي نَقَلَها عنه... ستجدون أن «جمهورية الخامنئي» أَرْحَم وأَهْدأ من أيّ سَطْرٍ فيها.
مقالات
بشارة شربل
07:53 م