الشاعر والفيلسوف واللغوي أبو العلاء المعري (رهين المحبسين... العمى والبيت)، بكل ما تضمنته حياته من جدل وإثارة، كان محور المحاضرة التي ألقاها الباحث، الكاتب طلال العامر، ضمن الموسم الثقافي لبيت الشعر في رابطة الأدباء.والمحاضرة - التي أدارها محمد حرسي، وأقيمت في مسرح الدكتورة سعاد الصباح - جاءت تحت عنوان «تحت عباءة المعري»، كي يتوغل العامر في سيرة وشخصية المعري، المثيرة، التي تجاذبت حولها الآراء على نحو مفرط، ليقول: «قديماً تحدث عنه ابن الجوزي والذهبي وابن كثير وأشاروا إلى تردده لكنهم نحوا إلى زندقته وكفره»، وأضاف: «في العصر الحديث أربئ على ما سبق من تهم بعض الكتاب والأدباء، اختلفت دوافعهم في ما بدا من أقولهم، وتباينت مناخاتهم في دراسة المعري لكنهم التقوا على إلحاده وزندقته».وأخذ مثالاً على ذلك رأي الكاتب العراقي هادي العلوي والشاعر جميل صدقي الزهاوي ومعروف الرصافي الذي تبرأ من براءة المعري وكشف المحاضر بقوله: «كان يمكن لي أمام هذه الآراء والأحكام أن أصدق بزندقة المعري ولكنني وجدت بعض العلماء والإعلام أصحاب المنهج الرصين في البحث العلمي، قد انتهت بهم أبحاثهم في شخصية المعري إلى خلاف ما سبق كالعلامة المحقق عبدالعزيز التميمي ومحمود شاكر ونديم الجسر وأحمد تيمور باشا وبنت الشاطئ».وأشار إلى تردد وحيرة الباحث العلمي أمام تضارب هذه الآراء والمواقف تجاه المعري، مؤكداً أن المعري دافع عن نفسه مثلما دافع عن غيره. وقال: «كيف أستطيع أن أقف موقفاً محدداً، على أرض ثابتة حيال هذه الشخصية المثيرة للجدل، التي تضاربت حولها الآراء، فشخص واحد تجده أديباً، ومفكراً، مؤرخاً، بينما يخرجه بعض المتشددين في زمانه من الملة، وشخص آخر يذكر أنه أحد العلماء ويعده من شيوخ العلم... إنها ظاهرة غريبة قلما تتوافر في شخصية غيره». وأضاف العامر: «كان لابن الجوزي موقف متشدد من أبي علاء المعري، وهذا الحكم موجود في كتاب (تلبيس إبليس)»، وبيّن العامر أنه يقف مستغرباً حيال هذا الحكم لأنه تضمن حكماً نفسياً على المعري.وذهب العامر إلى أنه كانت لديه مبررات في عدم التسليم بهذه الأفكار والمقولات أهمها أن هناك من يضاهيهم في العلم، والتحقيق، والمعرفة والبحث قد انتهوا إلى غير ما انتهى إليه من هاجم فكره، مؤكداً أن أبا العلاء المعري رجل استثنائي متميز، فهو دائرة من معارف متعدد العلوم والمواهب، فكان لغوياً وشاعراً وقاصاً، وفيلسوفاً، كما تعلم القراءات وروى الحديث النبوي الشريف، وأنه إنسان مثل سائر البشر له حسناته وعليه سيئاته، وأن علمه بالأدب جعله يوظفه توظيفاً غير عادي في مسارات حفظ اللغة والهوية، بالإضافة إلى تمجيد الله والدعوة إليه، وذكره وتسبيحه والدعوة إلى الزهد، وهذا - حسب قول المحاضر -غرض من الأغراض لا يخلو منه كتاب من كتبه.ويرى العامر أن المنهج العلمي الصحيح يقتضي النظر إلى الشخصية من خلال إنتاجها الأدبي والعلمي، بالتوازي مع الرواية التاريخية التي رويت عنه في مدونات التاريخ والتراجم، وأن الأولى أن يقدم الإنتاج الشخصي على مرويات التاريخ، أي أن يقدم ما قاله على ما قيل عنه، واستطرد العامر بالقول إن الرواية التاريخية حول زندقة المعري في كتب التاريخ والتراجم مضطربة، ولا تستند إلى أدلة كافية وأغلب من رووها وتناولوها هم من رجال الرواية والإسناد. وقال: «المعري مُني بكثرة الحساد والخصوم، وقد شكا منهم في أكثر من موضع في شعره»، وأضاف: «يحتم علينا من منطق العدالة والموضوعية أن نضع في حسبانا طبيعة الخصومات التي جرت في حياة المعري، وأمثاله من الأدباء والمفكرين، وما لها من آثار على الاتهامات التي يُتَهمون بها».وخلص العامر بقوله: «ينبغي قبل أن نبني حكما على المعري حول ما اتهم به، أن نسأل عن انتاجه سؤالاً منهجياً بالغ الأهمية وهو كم كتاباً ألف المعري؟ وكم المطبوع منها؟ وكان أفضل من أحصاها الأديب سليم الجندي في موسوعته (الجامع في أخبار العلاء)»، وأوضح أن من المؤشرات التي تدفع ببراءة المعري من التهم الموجهة إليه، أنه دافع عن نفسه وتبرأ من جملة هذه التهم.