أحياناً تكون الجريمة المدانة ذاتها بين جميع العقلاء، أشد استبشاعاً في وجدان الناس وأعرافهم، إن بدرت ممن يفترض أن يكون أول مكافحيها ومانعي أسبابها.مثلاً خيانة المسؤول عن صندوق الأمانات للأمانة، أكثر جرماً من خيانة غيره للصندوق، الذي ائتمنه الناس عليه بعد أن وثقوا بخلق الأمانة عنده، وجريمة ضرب الابن لوالده وإسالة الدم من جبينه، أسوأ من ذات الجريمة لو ارتكبت في حق آدمي آخر أياً كانت مكانته.ونهب الوصي لأموال اليتامى القصّر، الذين تحت وصايته أشد من أي غريب احتال فسلب حقوقهم...وهكذا فالجرائم في ذاتها مدانة ويزداد إنكار الناس على أصحابها، إن وقعت على هيئات معينة، ذلك لطبيعة الصلة بين القيمة الأخلاقية المعيارية لمرتكبها، وبين ما ارتكبه من إخلال صادم في الانقلاب غير المتوقع على موقعه الأخلاقي والوظيفي.بل إننا نلحظ ذلك البعد حتى في المجتمعات العلمانية والمادية والليبرالية، التي تنطلق من النسبية الأخلاقية وتقدس الحرية الفردية، وتقدمها على الحرية المجتمعية. كم من حاكم أو رئيس وزراء أو وزير قد أطاحت به وبمكانته واقتلعته من منصبه سلوكياته (الفردية) المستنكرة جماهيرياً!هذه الخاطرة أسطرها على هامش المحاضرة، التي ألقيتها لموظفي ومنتسبي إدارة الدراسات الإسلامية وعلوم القرآن في محافظة حولي والعاصمة بعنوان (الوظيفة... تحديات وأمنيات وأخلاقيات).وما أريد التأكيد عليه ليس تهوين التقصير أو التجاوز أو حتى الجناية، إن وقعت في قطاع دون آخر ومن موظف في حقل معين عن غيره من مجالات العمل الكثيرة.ولكن مما لا شك فيه أن المسمى الوظيفي والمكان والسمة، كل ذلك له اعتباره في السلوك العام ويتضاعف الاعتبار في التكليف الرسمي فحتى التقصير له درجاته ومستوياته.لذلك نجد الشريعة لم تغفل هذا الملحظ، ومن أشهر الأمثلة على ذلك جريمة الزنا فهي كبيرة وإثم ولكن الزنا بزوجة الجار أو المجاهد تتضاعف فيه الإدانة والآثام، وكذا نجد عقوبة الزاني المحصن من غيره.ولقد فصل الإمام ابن القيم هذا الملحظ في كتابه «الجواب الكافي».لذا وجب على كل موظف أن يجعل من القيم الثابتة معياراً يقيس به الأداء الوظيفي، ويحكم من خلالها على السلوكيات، ومما لا شك فيه أن وزارة الأوقاف والشؤون الاسلامية تمثل أصل القيم ومنطلقاتها، وعليه فإن الناس لا تلام إذا بالغت في النقد لتقصير موظفي هذا الصرح الأصيل، وكذلك وزارة التربية والتعليم إذ ان هاتين الوزارتين تخاطبان سائر الناس وكل البيوت بإعلاء شأن القيم والأخلاق، فإن تنكبوا الطريق فإن الأثر السيئ سيكون كبيراً واللوم سيكون قاسياً. لأن جناية كل منهما أضخم في حس الناس من غيرهم والعكس صحيح... وجميعنا يحتاج إلى التبصير والنقد الرشيد والنصح الأمين.

‏@mh_awadi