انطفأت جذوة الأدب، وخلت من الدهشة والإبهار، رغم ما تحتويه حياتنا الراهنة من أحداث جثام، وتغيرات طالت كل مناحي الحياة، وتفش ملحوظ في مستوى الفساد الذي يزحف بوتيرة متسارعة على كل ما يتعلق بالإنسان، واتساع مساحة الصراعات، والحروب والدمار والهجرة.هذا الكابوس تحقق بالفعل في عالمنا العربي، الذي دأب منذ تسعينات القرن الماضي على الانسحاب تدريجياً من طرقات الأدب الحقيق، وتسلقه حوائط مساء لا قدرة لأحد فيها في الوصول إلى مبتغاه، وأصبحت قضايانا منذ تلك اللحظة حتى الآن تكتب بمداد لا يلفت الأنظار ولا يثبت لونه، الذي يبهت إلى أن يختفي من الورق والأفئدة والعقول.أين المشكلة إذن... في الزمن الذي تتصارع فيه الأحلام، من دون طائل، أم في المواهب التي لم تتمكن من تخليد تلك الأحداث في رواية أو قصة قصيرة أو قصيدة شعرية، أو نص مسرحي أو كتاب فكري؟ ومعظم - إن لم يكن كل - ما كتب عبارة عن إرهاصات لم تتمكن من اختراق المشاعر وفرض سيطرتها على الأذهان، وتماسكها مع عوامل الزمن، لتظل ثابتة في القلوب يستحضرها الناس في كل وقت وحين.إن الانكفاء الأدبي الملحوظ، الذي يشهدها عصرنا الراهن يشي بالكثير من التفريط في مفهوم الإبداع الإنساني، والتقليل من دوره في الحياة، وهو الدور الذي لعبه على مدى عقود مضت، وكان له الأثر الفاعل والفعال في تصحيح وتحديد وحتى خلق طرق ومسارات مضت عليها الشعوب في سبيل تحقيق مصالحها، وتأكيد مفاهيمها ورغباتها المختلفة، خصوصا في الحرية والحياة الكريمة، فما زلنا نذكر بكثير من الحب والتقدير ما قاله الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي:إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدرونذكر قصائد أمل دنقل، تلك التي كانت تستنهض الهمم، وتتعرض للمحن بالكثير من التوضيح والنقد، وكذلك نذكر ما قاله الشاعر محمود درويش في دفاعه عن القضية الفلسطينية، وخصوصاً قصيدة «لماذا تركت الحصان وحيدا»، والتي تعبر عن مدلولات ورمزية متقنة، استطاعت أن تستقر في المشاعر والأذهان.وحينما نقرأ لفهد العسكر سنرى أنه لم ينفصل على الإطلاق عن قضايا مجتمعه الذي كان يشاركه الحياة، فعبر عنه، رغم ما ناله من ألم وعذاب.كما عبّر الأدباء قديماً عن كل ما يتعلق بعصورهم خير تعبير، وتفاعلوا مع كل أحداثها، وكتبوا عنها بصدق وإبداع وحب، ورغبة في التغيير إلى الأفضل، وبث الأمل والطمأنينة في النفوس، لذا فإننا إن قرأتنا ما كتبه نجيب محفوظ أو يوسف إدريس أو الطاهر وطار أو إسماعيل فهد اسماعيل أو ليلى العثمان أو عبدالعزيز المقالح أو الطيب الصالح وغيرهم، سنجد أننا نقرأ عصورهم وأننا في حالة من الاندماج الكلي مع ما يشيرون إليه من أحداث تأتي متواترة ومتناسقة في مواضيعهم.إنه الأدب الذي فقد في عصرنا الراهن القدرة على التفاعل مع الأحداث، وإن تفاعل فإنه تفاعل لا يتخطى كونه كتابات لا تمس المشاعر ولا تبقى ملتصقة بالمشاعر، بل إنها تتبخر بمجرد قراءتها، ولا يتمكن الذهن من التمسك بأي كلمة فيها.والسؤال: ما الذي أدى إلى انطفاء الأدب في وقتنا الراهن... لدرجة أنه لم يعد لسان حال المجتمع، ومن ثم لم يتمكن من رصد الأحدث، والتنبيه للخطر المحدق بالمجتمعات العربية، ووقف عاجز أمام كل هذه الأحداث التي مرت بها معظم الدول العربية؟هل هو المجتمع نفسه الذي انسرب معظمه إلى وسائل التواصل الاجتماعي، والانصراف إلى ما يدور فيه من أحداث وأخبار تتهافت عليها المشاعر التي تتسم بالكسل والرغبة في إراحة البال، ومن ثم خوض السجالات من ثم خلال هذه الوسيلة التي لا تفرق بين الغث والسمين، فهي تنشر بمجرد الضغط عن أيقونة «إرسال»؟أم أنه الأديب نفسه الذي لم تعد موهبته كافية لرصد فداحة الأحداث واكتفى بالفرجة، أو كتابة ما يطلق عليه «تحصيل حاصل»، أم أنه آثر الانعزال بكتاباته نتيجة لزهد القراء في الاطلاع على الجيد من الإبداع، وجريهم خلف الفاشينستات، والكتابات الباهتة؟أم أن هناك مرضا أصاب الأدب العربي... وهو مرض غامض، ربما سيشفى منه في القريب العاجل أو حتى البعيد؟أسئلة نطرحها... ولكننا لا نعرف أين الإجابة، لأن كل ما نراه يشي بالفوضى وتبادل الاتهامات، وكلام مرسل ضعيف الحجج، ومبررات لا طائل من تناولها، وأفكار مهملة عقيمة، لن تحل الأزمة.