المؤسسات المعنية بالثقافة والفنون في أي مجتمع - بصفتها التخصصية - تؤدي دورها من خلال مسارات مختلفة تماماً عن أي مسار آخر ملموس سواء كان مادياً أو خدمياً، فهي ليس لها تأثير مباشر مثلاً في مسألة الاستثمارات والتعاملات المالية بكل اشكالها أو البورصات أو الأمور المعنية بالتجارة التي تدخل في تشكيلها «السلعة»، كما لا علاقة لها بالأمور التي تختص بالصحة مثلاً وغيرها.غير أنها تقدم خدمة واحدة كبيرة تتفرع منها خدمات أخرى مختلفة، هذه الخدمة التي تقدمها، لها أكبر الأثر في تحديد المسارات الأخرى لمجتمع المادية والخدمية وصولاً إلى العلمية، ومن خلال دورها يمكن تحديد مدى قدرة المجتمع بمؤسساته المختلفة الرسمية وغير الرسمية على رسم ملامح حاضرها ومستقبلها، سواء كان مادياً أو اجتماعياً أو حتى سياسياً. فهذه المؤسسات الثقافية والفنية تعمل - في المقام الأول - على تنمية العقل وحثه على التفكير والتحليل والتخيّل، وتصحيح المسارات، وتحديد الاتجاهات، وتأكيد المفهوم الإنساني الذي يمكن من خلاله تحقيق أي تطور، ومتى ما تحققت مثل هذه المواصفات في أي مجتمع كان، فإنه سيكون على أتم الاستعداد لتطوير نفسه اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً وعلمياً، حيث إن اللبنة الأولى التي يحتاجها لبناء عمارته في الحاضر والمستقبل، قد تأسست على أسس ودعائم ثقافية وفنية متينة، وبالتالي فإنه سيتقبل بكل أريحية وطمأنينة كل ما يتوصل إليه من تطور منشود.والمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت يقوم بهذا الدور الذي تأسس من أجله، ووضع الأولون فيه لبناته الأولى وأهدافه، وبالتالي لم يعتن المجلس منذ تأسيه بالأمور المتعلقة بالثقافة والفنون في أشكالها المعتادة والتقليدية كالشعر والرواية والقصة والمسرح والموسيقى والسينما فقط، ولكنه توسع في هذا الأمر ليكون الرئة التي يتنفس منها المجتمع، والبوابة التي يستطيع الدخول منها إلى عوالم مختلفة الأشكال والمضامين، من أجل أن يكون له الدور الحقيقي في تسيير عجلة التقدم، والوصول بالكويت إلى درجات عالية من الرقي والازدهار.لذا فإننا سنجد أن المجلس الوطني اعتنى إلى جانب ما ذكر من أوجه ثقافية وفنية بالفكر الذي أفرد له المجلات المتخصصة والندوات والمهرجانات، والتراث من خلال ما أقدم عليه من اهتمام مبكر بالقديم المادي مثل المباني والاكتشافات الحضارية، والمعنوي الذي يعتني بالآداب وغيرها، وكذلك أعطى اهتمامه للفنون الجميلة بكل ألوانها من تصوير ونحت وخزف وغيرها، كما اتجه إلى المنتج الثقافي العالمي، الذي كان له التأثير الشديد في التطور من خلال ترجمته ليكون متاحاً لكل مطلع للاستفادة من محتواه، وغير ذلك من الاهتمامات التي أولاها المجلس الوطني للإبداع وذلك وفق رؤى تتناسب مع ما نشهده من تطور حثيث يعيشه العالم في كل لحظة وأخرى.وقدم أمناء المجلس المتعاقبون، كل ما يمكنهم القيام به - كل حسب اجتهاده ورؤيته - ووفق الإمكانيات المتوفرة... لنصل إلى أمينه العام الجديد الدكتور كامل العبد الجليل، الذي ظل على مدى ثلاثة أشهر في هذا المنصب، وقد تجددت الثقة به منذ أيام قليلة ليعين رسمياً في سدته، وما يمكن التأكيد عليه أن المجلس الوطني هو معمل التطور للمجتمع، والموجه الحقيقي نحو أهداف تنموية مهمة، والمحفز الذي من خلاله يمكن الوصول إلى مستويات عالية من التطور في مختلف مناحي الحياة.والعبد الجليل من الشخصيات الثقافية المعروفة في الكويت بفضل ما يتميز به من تقدير حقيقي لكل ما يتعلق بمفاهيم الثقافة والفنون، ومن ثم سعيه إلى أن تكون هذه المفاهيم في دائرة الاهتمام، وقد بدا هذا واضحاً من خلال إدارته الناجحة لمكتبة الكويت الوطنية، تلك التي جعل منها مصدراً للضوء الذي ينير طرقات ثقافية مهمة في الكويت، ولم يحصر دورها في الكتب والإصدارات، بل امتدت اهتماماته بها إلى أبعد من ذلك بكثير، كي تقام في مسرحها وقاعاتها المحاضرات والندوات وتنظم الدورات والورش الثقافية والفنية وتنظم المعارض الفنية، وهذه المجهودات الحثيثة كانت الأساس الذي جعل من المكتبة منارة ثقافية مهمة في الكويت.غير أن أمام العبدالجليل مهمات أخرى يجب أن تكون موجودة في حساباته، خصوصاً في ظل ما نشهده من فوضى عارمة أصابات الحياة بشكل عام خصوصاً العربية منها، وهذه الفوضى تسبب فيها الانترنت بمواقعه المختلفة، التي خرج البعض من مسارها الصحيح المبني على التقدم والتطور، إلى مسارات أخرى يدخل فيها تحقيق المنافع الشخصية، من خلال التطاول على الآمنين، والابتزاز الرخيص، بالإضافة إلى تقهقر الثقافة الجادة لتحل محلها ثقافة التسطيح واستسهال التعاطي مع الأدب من دون موهبة أو قدرات إبداعية مهمة.وعلى هذا الأساس بات من الضروري على المجلس الوطني ومن خلال أمينه العام العبد الجليل، أن يكون لديه اهتمام أكبر بهذه المسألة من خلال استحداث إدارة أو مراقبة تقع على عاتقها دراسة كل ما يتعلق بالثقافة والفنون على مواقع التواصل الاجتماعي، والعمل على توعية الشباب من خلال ندوات متخصصة أو استحداث سلسلة كتب تتناغم مع هذه المسألة، في محاولة لإعادة الاعتبار للثقافة الحقيقية، التي تنسحب تدريجياً مع مرور الوقت.وهذه الإدارة أو المراقبة المستحدثة لا يهم أن يكون لها دور رقابي، بقدر أن يكون لها دور توعوي وفكري، وذلك وفق تصورات يمكن الوصول إليها من خلال دراسة يقوم بها المتخصصون، لرأب الصدع الحاصل في الجسد الثقافي.كما أن هناك إهمالا نسبيا لدور الشباب في ما يتعلق بالتنمية الثقافية، ومن ثم فإن دور العبدالجليل سيكون محموداً، لو وفّر لهم مساحة أكبر، ليس فقط من خلال إشراكهم في الأمسيات والمحاضرات التي تقام في مهرجان القرين أو معرض الكويت الدولي للكتاب، وغيرهما، فهناك خطوات يجب أن تتبع في سبيل أن يكون لهؤلاء الواعدين دور في التنمية، وذلك من خلال استحداث سلسلة كتب تهتم بإبداعاتهم وكتاباتهم، وتشكيل لجان منهم للتباحث في مختلف المواضيع الثقافية والفنية، من أجل تحديد مواضع الخلل في المنظومة الثقافية، ومن ثم الاسترشاد بهم في وضع الحلول حسبت تصوراتهم الواعدة، وغير ذلك الكثير من التحركات التي تؤدي إلى أن يكون للشباب دور في التنمية الثقافية.والدور الآخر المهم الذي نطمح أن يكون في اهتمامات العبدالجليل... ذلك ربط المجلس الوطني القوي والشديد بمختلف القطاعات والمؤسسات الرسمية بكل توجهاتها وأدوارها، وكذلك المجتمع المدني، والمبادرة والإسراع في تنفيذ هذه الخطة من أجل ربط هذه الجهات بالمجلس الوطني وتأكيد الحضور الثقافي في كل الاتجاهات.ونشير إلى مسألة أخرى أكثر أهمية تلك التي تتعلق بمجلة «العربي» التي أصبحت تبعيتها للمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، وما نشهده من تعثر تتعرض له هذه المجلة التي لها أهمية كبيرة في تاريخ الكويت، وتربّى على مواضيعها أجيال متلاحقة، ودخلت إلى كل مكان في العالم حتى النجوع والقرى، وأدت دورها الريادي باتقان وإخلاص، فليس بعد هذا التاريخ الطويل من العطاء تتعثر في طباعتها وفي توزيعها، وتعاني الكثير من المعوقات الإدارية والمالية، وهي التي قال عنها مُطْلِقها وراعيها منذ فكرتها الأولى حضرة صاحب السمو أمير البلاد الشيخ صباح الأحمد إنها «هدية الكويت لكل العرب».لذا فإن مهمة العبدالجليل في هذ الأمر كبيرة، من خلال إعادة «العربي» إلى سيرتها الأولى التي تعوّد عليها القارئ العربي، وهي سيرة لا تزال موجودة، إلا أن المعوقات المادية والإجرائية هي التي تؤثر على حركتها.ونتحدث كذلك عن إصدارات المجلس الوطني، التي صُنّفت كأفضل إصدارات عربية، من خلال المواضيع التي تقدمها، إلا أنها - أيضا - ومنذ فترة طويلة تتعثر بل إن بعضها مهدد بالتوقف، وربما البعض الآخر متوقف فعلياً، لذا فإنه بات من الضروري أن يكون هذا الأمر في حسابات العبد الجليل، والمطالبة بدراسة حول هذه الإصدارات، والعمل على إعادة الحيوية إلى من يتعثر، وإعادة الحياة لمن توقف، فنحن نتحدث عن «عالم» المعرفة و«عالم» الفكر و»الفنون»، وعالم «المسرح» و»ترجمات عالمية» وغيرها، تلك السلاسل التي يجب عدم التخلي عنها وخوض التحدي في سبيل إرجاعها إلى أدوارها الحقيقية.وبخصوص كل ما سبق فإن الكويت لديها كوكبة من المبدعين الكبار - معظمهم رواد في مجالاتهم - والأسماء هنا كثيرة ومعروفة مثل الدكتور الشاعر خليفة الوقيان والدكتور الناقد سليمان الشطي والروائية ليلى العثمان والروائية الدكتورة فاطمة العلي والأديبة الدكتورة ليلى محمد صالح والروائي طالب الرفاعي والدكتور خالد عبد اللطيف رمضان والشاعر خالد الشايجي، والأديبة منى الشافي، والروائي حمد الحمد، والكاتب عبدالعزيز السريع، والشاعر عبدالعزيز سعود البابطين، والشاعرة الدكتورة سعاد الصباح وغيرهم الكثير، ممن لديهم القدرة بفضل تاريخهم الثقافي الحافل بالمنجزات، في الاسترشاد بآرائهم المتعلقة بالتنمية الثقافية على كل الأصعدة.هذه بعض التصورات والرؤى التي نضعها بين أيدي العبدالجليل، والتي نرى أن تفعيلها وأخذها في عين الاعتبار، سيؤدي إلى المزيد من التطور في نسيج العمل الثقافي، والذي سينعكس على كل مناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية والعلمية وحتى السياسية، لأن الحديث هنا عن الثقافة والفكر.