على طريقةِ «سباق البَدَل»، يَمْضي الواقعُ اللبناني من أزمةٍ إلى أزمةٍ وسط مَخاوِف كبيرة بفعل هزّاتٍ سياسية وأخرى دستورية متتالية تشي بمَخاطر فعلية يزيد من وطأتها الوضعُ المالي - الاقتصادي الذي يبدو وكأنه «يرقص فوق حبْلٍ رفيع». ففي اللحظة التي كانت البلادُ تشهد أمس ديناميةً جديدةً لطيِّ صفحةِ «حادثة البساتين» (عاليه - 30 يونيو) والإفراجِ تالياً عن جلساتِ الحكومةِ «المُحْتَجَزة» منذ نحو شهر، دَهَمَ المَشْهد السياسي اختبارٌ قد يكون أكثر إثارةً ويُنْذِرُ بمضاعفاتٍ ذات طبيعة وطنية ويتمثّل في الرسالةِ التي وجّهها الرئيس ميشال عون إلى البرلمان عبر رئيسه نبيه بري، طالِباً تفسير المادة 95 من الدستور (حول إلغاء الطائفية السياسية والمرحلة الانتقالية خصوصاً لجهة طائفية الوظائف والمناصَفة فيها)، وذلك من ضمن المسار الاعتراضي على مادةٍ (80) جرى تضمينها في قانون موازنة 2019 وتنص على حفْظ حقوق الفائزين في مباريات الخدمة المدنية التي يعتبر عون وفريقه أنها لا تراعي التوازن الطائفي. وفي موازاة توقيع عون، أمس، قانون الموازنة فاصلِاً مسارَه عن المادة 80 التي «يكْمن» لها «التيار الوطني الحر» عبر آليةٍ لمحاولة إلغائها، برز رهانٌ على أن تُثْمر المساعي المتجدّدة لكسْر المأزق الحكومي قبل أن يتفاعَلَ «لغمُ» المادة 95 من الدستور وتصيب شظاياه مسارَ المعالجات لـ«حادثة البساتين» بما يضع البلاد أمام أزمة سياسية - دستورية متشابكة ولا سيما في ظلّ المناخات التي رافقتْ «الرسالة الرئاسية» وحذّرت من أن يكون عنوانُ التوازن الطائفي في الإدارات العامة في سياق «انقلابٍ متدحْرج» على اتفاق الطائف، سبق أن تحدّث البعض عنه، أو أن يفتح هذا السلوك البابَ أمام تقويض مرتكزات هذا الاتفاق الذي يتربّص به أكثر من طرف داخلي.وكان لافتاً الحِراكُ المكثّف الذي دار على جبهة «حادثة البساتين» انطلاقاً من المبادرة التي يعمل عليها المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم والتي حملتْه إلى السرايا الحكومية حيث التقى الرئيس سعد الحريري قبل أن يتوجّه إلى قصر بعبدا حيث كان اجتماعٌ بارز ضمّ عون والنائب طلال ارسلان والوزير صالح الغريب ووزير الدفاع الياس بو صعب ووزير الدولة لشؤون رئاسة الجمهورية سليم جريصاتي، أعقبه اجتماع بين الحريري ورئيس «التيار الحر» الوزير جبران باسيل، وذلك غداة لقاءٍ ليلي جَمَعَ رئيس الحكومة وزعيم «الحزب التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط.ولم يكن ممكناً أمس الجزم بما إذا كانت المبادرة الجديدة للحلّ ستختلف عن سابقاتها لجهة «الشياطين الكامنة في التفاصيل» وإمكان نيْلها موافقة كل الأفرقاء رغم أن طبيعة اللقاءات ووتيرتها عَكَسَتْ وجود قرار كبير بإنهاء «أزمة البساتين» بعدما أنهكتْ الأسابيع الماضية كل الأفرقاء وعطّلت الحكومة وكرّستْ عدم إمكان بلوغ حلّ خارج منطق الـ«لا غالب ولا مغلوب» الذي بدا أن الخيارات التي توصل إليه محدودة وتمحورتْ حول مساريْن: إما ترْك الملف في عهدة المحكمة العسكرية وانتظار القرار الظني ليُبنى في ضوئه إذا كانت القضية تستوجب الإحالة على المجلس العدلي (يصرّ أرسلان على هذه الإحالة) وذلك بعد العودة الى مجلس الوزراء، وإما الذهاب بالملف مباشرةً إلى طاولة الحكومة و«فك الاشتباك» حول «العدلي» بتصويتٍ «مُبرْمج» سلفاً لضمان تعادل سلبي يُسقِط عملياً هذا المطلب الذي يرفضه جنبلاط بشدّة.وتمّ التعاطي أمس مع ادّعاء مفوض الحكومة المعاون لدى المحكمة العسكرية القاضي كلود غانم على 21 شخصاً في حادثة قبرشمون - البساتين (بينهم أربعة موقوفين من «التقدمي) بجرم إطلاق النار من أسلحة حربية غير مرخصة، وقتْل (مرافقيْ الغريب) ومحاولة قتل مدنيين وإحالته الملف على قاضي التحقيق العسكري الأول بالإنابة طالباً استجواب المدعى عليهم وإصدار المذكرات القضائية اللازمة في حقّهم، على أنه يُلاقي المَساعي الحثيثة للوصول إلى مخْرجٍ لهذه القضية البالغة التعقيد.وإذ يجري رصْد للكلمة التي يلقيها عون اليوم في الاحتفال الذي تقيمه قيادة الجيش لمناسبة العيد 74 للمؤسسة العسكرية ويحضره كل من بري والحريري، سادتْ بيروت أجواء ترقُّب ثقيل لمآل الرسالة التي وجّهها رئيس الجمهورية الى البرلمان حول تفسير المادة 95 من الدستور، سواء لجهة الخطوة التالية لبري في تحديد موعد لتلاوة الرسالة تمهيداً لمناقشتها، أو لناحية المناخات التي ستواكب هذا التطور في ظل خشية عارمة من أن تستعيد البلاد مَظاهر الاستقطاب الطائفي الحاد وتالياً وضْع دستور الطائف أمام امتحانٍ قاسٍ ولا سيما في ظل تراكُم التوترات والحساسيات السياسية و«النقزة» من أمرين:* الأول ما تضمّنته رسالة عون من دعوة لمناقشة المادة 95 من تلويحٍ بخيارات لم يفصح عنها بتأكيده «حفظ حقنا وواجبنا الدستورييْن من موقعنا ودورنا وقسَمنا، باتخاذ التدبير الذي نراه متوافقاً والدستور في المسائل المطروحة في الرسالة».* والثاني كلام باسيل الذي عَكَسَ أن فريق عون حَسَم تفسيره للمادة 95، إذ قال إن هذه المادة «واضحة وتشير إلى أنه بعد تشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية تكون المناصفة الفعلية في الفئة الأولى (فقط)، وإلغاء المناصفة الفعلية بعد الوصول الى الدولة المدنية (...) ولا يهدّدنا أحدٌ بالعدّ لأنّ هذا التهديد ينقلب على صاحبه ولدينا خيارات أخرى».وكان لافتاً في موازاة ذلك، كلامٌ للحريري أعلن فيه «صحيح هناك مشاكل سياسية ونحن لا نقف عندها ونمضي في العمل، وهذه ديموقراطيتنا وأحياناً ربما هي عدوّة نفسها، ونحن في بعض الأماكن أعداء أنفسنا بالطريقة التي نقارب فيها الأمور في البلاد، وأنا متفائل دائماً، ومَن يفتعل مشاكل في البلد يجب أن يتحمل مسؤولياتها والمشاكل ستمرّ وسنعود أفضل مما كنا».