رغم ضجيجِ الحربِ المحتَمَلةِ في المنطقة ووقوفِ جميع اللاعبين على سلاحِهم، فإن بيروت المصابة بقلقٍ إستراتيجي لشعورها الدائم بأنها في عيْن العاصفة، هي الآن أمام سؤالٍ لا يقلّ «ضراوةً» عن تلك الأسئلة الوجودية التي يُمْليها دَفْعُ الشرق الأوسط برمّته إلى حافة حربٍ شاملة.السؤالُ و«بصريح العبارة» هو: هل ينجو لبنان من خطرٍ مزدوج لاحَ أخيراً عبر تحذيراتٍ وبـ«مكبرات الصوت» من انهيارٍ مالي يقْرع الأبواب، ومن الإطاحةِ بفرصةٍ لا يمكن تعويضها للنهوض من الكبوة بتلبيةِ «دفتر الشروط» الإصلاحي للحصول على أكثر من 11 مليار دولار خصّصها مؤتمر «سيدر» قبل عام ونيف؟إنه سؤالٌ يحْبس الأنفاس في بيروت التي طاردتْ طويلاً المناقشات الماراثونية لموازنة 2019 على طاولة مجلس الوزراء قبل أن تنتقل «كرةُ النار» إلى البرلمان على وهج غليانٍ اجتماعي يعلو ويخفت في شارعٍ يئنّ تحت وطأة أزماتٍ مرّشحة لأن تكون أكثر تَأزُّماً في زمنِ «لحْس المبرد».ووسط ضوضاء الأرقام وتَطاحُنِها والكلام الكبير عن إجراءاتٍ مؤلمة لتفادي انهيارٍ أكثر إيلاماً، والمحاكاة الدائمة لموازنةٍ تخضع لعملياتٍ قيصرية، التقت «الراي» الخبير الاقتصادي الدكتور غازي وزني في محاولةٍ لالتقاط الأبيض والأسود وما بينهما في المسارِ المالي - الاقتصادي الذي ينتظره لبنان.يرى الدكتور وزني، بعقْلِه الهادئ ومُقارَبَتِه الموضوعية، أنه «إذا أردْنا تشخيصَ الواقعِ الحالي، يمكننا القول إن لبنان يعاني أزمةً اقتصادية - مالية ناجمةً عن العجز المرتفع في المالية العامة، والذي يصل إلى 11.5 في المئة إلى الناتج المحلي. وموازنة 2019 يُراد أن تكون خطوةً في اتجاه تصحيح هذا العجز، وهي خطوةٌ مطلوبةٌ في الداخل اللبناني، ومطلوبةٌ في الوقت نفسه من المجتمع الدولي والدول المانِحة في مؤتمر (سيدر)، ومن صندوق النقد الدولي ووكالات التصنيف الدولية».وفي تقديره أن «قراءةَ معطياتِ الموازنة تجْعلنا أمام إيجابياتٍ عدة وكذلك أمام سلبياتٍ عدة. فمن الإيجابيات أنه يُراد من هذه الموازنة خفْض العجز من 11.5 في المئة (إلى الناتج المحلي) إلى 9 في المئة، وأنها لا تتضمّن إجراءات ضريبية مؤلمة كرفْع الضريبة على القيمة المضافة أو زيادة سعر صفيحة البنزين»، لافتاً إلى «أن الإجراءَ الضريبي الوحيد هو رفْع الفوائد على الودائع المصرفية من 7 إلى 10 في المئة، وتالياً إنها موازنة لا تطول الرواتب والأجور والطبقة المتوسطة ومحدودي الدخل».أما في شأن السلبيات ففي الإمكان اختصارها، بحسب وزني، بأن «الموازنة جاءت متواضعة في الإصلاح ومن دون رؤية اقتصادية، وهي أقرب ما تكون إلى موازنةِ أرقامٍ يغلب عليها الطابع الحسابي لا أكثر ولا أقلّ»، ملاحظاً أنه «إذا نظرنا إلى الموازنة الحالية فسنجد أن أرقامَها هي نفسها أرقام موازنة 2018، الأمر الذي يصحّ معه القول إنها موازنة رقْميّة لا إصلاحية».ويشرح «أن الموازنة المعتمَدة في لبنان موزَّعة على ثلاثة أبواب رئيسية:الأول يتناول الرواتب والأجور التي وصلتْ في موازنة 2018 إلى نحو 40 في المئة (من النفقات)، والمقدَّر أن تصبح في موازنة 2019 نحو 32 في المئة.ويُفترض في هذا المجال اتخاذ إجراءاتٍ عدة اقتصرت حتى الآن على تجميد التوظيف لثلاث سنوات (في القطاعيْن المدني والعسكري) وحسْم 50 في المئة من مخصّصات السلطات السياسية، إضافة إلى ما يجْري بحثه في شأن الرواتب العليا وإمكان خفضها بنسبة 10 أو 15 في المئة.وثمة مسألة أخرى تتعلّق بالرواتب والأجور وتتمثل في معاشاتِ التقاعد ونهاية الخدمة التي كانت ارتفعتْ في شكلٍ كبير بين عاميْ 2010 و2018 وتَضاعفتْ مرّتيْن ونصف المرة، ما يفترض اتخاذ إجراءات في شأنها، أُقرّ جزء منها والمتعلّق بوقف الإحالة على التقاعد لمدة 3 سنوات، فيما يستمرّ النقاش في شأن التدبير رقم 3 في المؤسستيْن العسكرية والأمنية، وإمكان فرض حسومات على معاشات التقاعد بنسبة 3 في المئة في السلك العسكري لحساب الطبابة والاستشفاء.الباب الثاني وهو مخصَّص للكهرباء والتي تكلّف الخزينة نحو ملياريْ دولار سنوياً. وقد اتُخذ قرارٌ محدود المَفاعيل جرى بموجبه خفْض العجز البالغ قيمته ملياريْ دولار إلى نحو مليار و650 مليون دولار. رغم انه كان بالإمكان خفضه إلى نحو مليار و400 مليون دولار، لكن هذا الأمر لم يحصل.أما الثالث فهو الباب المتعلّق بخدمة الدين العام الذي يمثّل 32 في المئة من الموازنة. وكان يفترض بالحكومة اتخاذ إجراءات لضبْطه عبر خطوةٍ مماثلة لما حصل في العام 2002 إبان مؤتمر باريس -2 حين انخفضت الفوائد من 16 إلى 15 في المئة، وانخفضت تالياً خدمة الدين العام في شكل ملحوظ. والآن الأمور غير واضحة في ما خص المباحثات الجارية بين الحكومة ومصرف لبنان والمصارف من أجل ضبْط خدمة الدين العام، فإذا تم الاتفاق في هذا الشأن يكون تَحَقَّقَ أمرٌ إيجابي».ورأى أنه «كان على الحكومة اتخاذ إجراءاتٍ أكثر جدية في موضوع زيادة الإيرادات وتحقيق العدالة الاجتماعية ما أمكن في النظام الضريبي التصاعُدي، وخصوصاً بالنسبة إلى ضريبة الدخل، ما دام انهم قرروا رفْع ضريبة الدخل على الشطور العليا، إذ كان من المنتظر أن يكون الأمر تَصاعُدياً في مجالات أخرى»، لافتاً إلى أنه «كان بالإمكان أيضاً التعاطي بجدية أكبر مع ملف الأملاك العمومية البحرية لتأمين مداخيل بنحو 300 مليون دولار سنوياً».وبعد هذه «الغرْبلة» العامة للإيجابيات والسلبيات، خلص وزني إلى اعتبار «أن إقرارَ الموازنة وتنفيذها سيكون رسالةً إيجابية إلى الدول المانحة والأسواق المالية العالمية ووكالات التصنيف، وخطوةً على الطريق إلى موازنة 2020 التي يفترض أن يكون العجز فيها أقلّ من 8 وأقرب إلى 7 في المئة».وأعرب وزني عن اعتقاده أنه «كان من الأفضل تقديم الحكومة رؤيةً حول تطوّر الوضع الاقتصادي - المالي والخطوات المقبلة، أي أن تكون الموازنة جزءاً من خطةٍ ثلاثية أو خمْسية كعاملٍ مُساعِدٍ ومُشَجِّع ومُطَمْئن».وانطوتْ المناقشاتُ الحامية، على الطاولة وفي الشارع وعلى الشاشات وخلف الستائر، على المساهمة التي يمكن أن يضطلع بها القطاعُ المصرفي في عمليةِ كبْحِ الانزلاقِ نحو وقائع أكثر مأسوية، والمساعدة على الخروج من الحفرة عبر موازنةِ أمرٍ واقع. ولم تَخْلُ مخاطبةُ القطاع المصرفي من التهويل عليه أو التعاطي معه على طريقة «أبطال وحرامية» عبر تصويره وكأنه «الناهِب».وفي مقاربةٍ لهذه المسألة الحساسة، تحدّث وزني عن «أن جميع القوى السياسية دعتْ المَصارف للمساهمة، نتيجةِ الوضع المأزوم في المالية العامة، والمبادرة على غرار ما قامت به في ملاقاة مؤتمر باريس -2. والمَصارف لم ترفض هذا الاقتراح لكنها فضّلت التريث، وهو ما عَكَسَهُ موقفُ رئيسِ الحكومة سعد الحريري عندما قال إن المَصارف لم تعترض على المساهمة التي ينبغي أن تأتي من ضمن سلّةٍ شاملة وفي اللحظة الأخيرة»، مشيراً إلى «أن المَصارف تُحاذِرُ اللجوءَ اليها كلّما حَلّتْ مشكلةٌ في الدولة فيأخذون التمويل منها ثم يذهب في مسالك الهدر والفساد، وهي على حق في ذلك، وجلُّ ما تقوله إنها جاهزة للمساعدة في الإنقاذ والإصلاح والتصحيح، لكنها لن تجازف في تمويل الهدر والفساد».وقال إن «الإصلاحات الموجودة غير كافية ويفترض إعادة النظر بحجم القطاع العام في لبنان لأنه مصابٌ بالتخمة. ففي العام 2018 وحده زاد عدد الموظفين نحو 15 ألفاً، كما زاد في الأعوام الأخيرة في شكل غير مدروس، إضافة إلى أن إقرار سلسلة الرتب والرواتب في القطاع العام جاء عشوائياً... ومن هنا لم يكن مفاجئاً طلب الدول المانحة في مؤتمر (سيدر) في توصياتها إعادة النظر بالقطاع العام، غير أن الإجراءات المُتَّخَذَة غير كافية. أما بالنسبة إلى شراء الوقت، فإن لبنان الآن أمام فرصة ما زالت متاحة للإنقاذ».وعن التحذيرات التي تَوالتْ على تخومِ مناقشاتِ الموازنة من إمكان انزلاق لبنان الى النموذج اليوناني، حرص وزني على تأكيد «أن لبنان ليس اليونان، واليونان ليست لبنان مالياً واقتصاديا». وإذ اعتبر «ان ثمة نقاط تشابُه مع الأزمة اليونانية»، إلا انه شدّد على «أن هناك نقاطَ اختلافٍ أكيدة وكبيرة تجعل لبنان بعيداً عن النموذج اليوناني».وعدّد نقاط التشابه كالآتي:- المديونية العامة في اليونان كانت مرتفعة جداً وبلغتْ 180 في المئة إلى الناتج المحلي، وهي في لبنان مرتفعة أيضاً وتصل إلى 150 في المئة إلى الناتج المحلّي.- خدمة الدين كانت مرتفعة في اليونان وقد بلغتْ 18 في المئة إلى الناتج المحلي، وهي مرتفعة في لبنان ولكنها لا تتجاوز 10.5 في المئة إلى الناتج المحلي.- النمو الاقتصادي في اليونان كان سجّل قبل انفجار الأزمة معدلات سلبية لسنوات (ناقص 3 وناقص 4 وناقص 5)، فيما يسجّل لبنان نسبة نمو ضعيف جداً تقلّ عن 1 في المئة. - اليونان كان يعاني تخمة في القطاع العام، وكذلك الأمر بالنسبة إلى لبنان.- اليونان واجه تَهَرُّباً ضريبياً كبيراً، وهذا ما يعانيه لبنان أيضاً. أما نقاط الاختلاف مع نموذج اليونان «التي كان واقعُها المالي - الاقتصادي أسوأ بكثير مما هو عليه لبنان»، فحدّدها وزني كالآتي:اليونان يعتمد عملة اليورو. أي أنه في نهاية كل شهر، إذا لم يكن البنك المركزي اليوناني يملك اليورو، فإنه لن يستطيع دفْع رواتب العاملين في القطاع العام، وهو كان وصل الى هذه المرحلة ووقع في أزمةِ عدم القدرة على دفْع الرواتب. أما في لبنان فالعملة هي الليرة اللبنانية، وتالياً مهما كان الوضع فإن مصرف لبنان لن يواجه مشاكل في دفْع الرواتب ولن نقع في أزمة مماثلة.- دين اليونان كان في 90 في المئة منه خارجياً، لبنوك أوروبية، لصندوق النقد الدولي، لصناديق استثمارية، وللاتحاد الاوروبي، وكان هناك أقل من 5 في المئة سندات بعملات أجنبية داخلية. أما لبنان فـ80 في المئة من دينه بالعملات الأجنبية داخليّ (مصرف لبنان والمصارف).- استحقاقات سندات الدين بالعملات الأجنبية في لبنان قابلة للضبط، اذ لدينا سنوياً ما يقارب 2.6 مليار دولار، فيما كانت استحقاقات اليونان كبيرة جداً وناهزتْ 20 مليار يورو (سنوياً).- القطاع المصرفي في اليونان كان هشاً جداً، وقد بلغتْ تسليفاته 130 في المئة من ودائعه، بينما تبلغ تسليفات القطاع المصرفي في لبنان نحو 60 في المئة من ودائعه، ما يؤكد أن قطاعنا المصرفي قوي ومتين ويستطيع تمويل القطاع العام والخاص.البنك المركزي اليوناني لم يكن يملك احتياطاً بالعملات الأجنبية وكلما احتاجت اليونان كانت تلجأ إلى البنك المركزي الأوروبي، بينما يملك مصرف لبنان احتياطاً بقيمة 38 مليار دولار وذلك في بلدٍ يبلغ حجم اقتصاده نحو 50 مليار دولار.ومن هنا يعتبر وزني أن مقارنةَ الواقع المالي - الاقتصادي في لبنان مع النموذج اليوناني لا تصحّ، لافتاً إلى أنه «بحال انزلق لبنان إلى أزمةٍ، فلن تكون على طريقة ما حلّ باليونان وتحديداً لجهة حصول الخصم القسري للدين (haircut)، بل سنكون أمام انهيارٍ نقدي أي تدهور سعر صرف الليرة على غرار ما حصل في مصر وما يجري حالياً في تركيا».