يَنْخَرِطُ لبنان في ورشةٍ هائلةٍ من الأرقامِ الملغومةِ مع المناقشات الدائرة لموازنةٍ كأنها «حرباً وجودية»، ساحاتُها الشارع والشاشات وطاولة مجلس الوزراء والصالونات، وتُفْضي منازلاتُها إلى حبْسِ أنفاسٍ يُمْليه السباقُ المحمومُ بين الحاجةِ لإقرارِ موازنةٍ «ثوريةٍ» بالغةِ التقشفِ وبإجراءاتِ «وجع ساعة ولا كلّ ساعة»، وبين خطرِ انهيار وشيكٍ يتردّد صداهُ تحذيرات صبحَ مساءٍ على ألسنةِ المسؤولين.وتَطغى على المناقشات، التي تقترن بحملاتٍ شعبوية وبهلوانية وتهويلية، الجوانبُ التقنيةُ بعدما أَخْلت السياسةُ الساحةَ لمقارباتٍ تُحاكي ما حلّ بلبنان من كوابيس مالية واقتصادية على أنه مشكلات «دفترية» ترتبط بالهدر والفساد، من دون احتساب كلفة بقاء القرار الإستراتيجي خارج الدولة أو ما أصاب البلاد من جراء تعطيل آليات الحُكْم لفرْض وقائع سياسية أو خياراتٍ رئاسية.فظاهرةُ «موتِ السياسة» لاحتْ في الأفق بعد التسوية التي جاءت بالعماد ميشال عون رئيساً للجمهورية وأعادت الرئيس سعد الحريري إلى السرايا الحكومية، وعكستْ في جوْهرها تسليماً بالإمْرة الإستراتيجية لـ«حزب الله» على وقع التحوّلات التي شهدتْها المنطقة. أما تجلياتُها الأهمّ فكانت انكفاء الحريري لإيلائه الشأن المالي - الاقتصادي الأولوية، وتَمَوْضُع رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع خلف عنوان «بناء الدولة» وترْك المسائل الأخرى ذات الطابع السياسي - السيادي على الرفّ.وحده زعيم الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، الذي كان تَجَرَّعَ كأس التسوية الرئاسية، استمرّ في تَمَلْمُلِهِ السياسي، يتقدّم ويتراجع، على وقع حربٍ خفيّة لمحاصرته وإضعافه وعزلْه انتقاماً من أدواره على مدى المرحلة العاصفة التي دهمتْ لبنان مع اغتيال حليفه الرئيس رفيق الحريري وخروج الجيش السوري وتَمادي سطوة «حزب الله» وانفجار الربيع العربي وتَلاقي «لعبة الأمم» على إجهاضِ ثورة الشعب السوري وما رافَقَه من قتْلٍ وتدمير هائليْن.أَدْرك جنبلاط، الذي غالباً ما يقال إنه قارئ بارِعٌ للتحوّلات، أن قَدَرَه أن يُعانِد كوالده كمال جنبلاط الذي رَفَضَ إدخاله أيام الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد «السجن الكبير»، فاستمرّ وعلى طريقته في مقاومة حشْره في سجنٍ صغير، اسمُه تارةً الزعامة الدرزية وتارةً عبر اللعب في عقْر داره. ورغم براغماتيّته المفْرطة فإنه على تَمَرُّدِه يحاذرُ التسليمَ بمصير «الهنود الحمر».هادَنَ، قاوَمَ، استدارَ ويَمْضي على هذا النحو من الكرّ والفرّ وكأنه يشتري الوقَت وهو جالِسٌ على حافةِ النهرِ لعلّ تمرّ جثةَ عدوّه مع النياشين المتهاوية والخرائط الممزَّقة وأوراق التوت وأشلاء الديكتاتوريات والعقول المستبدّة... يُراقِبُ من على ضفاف الجغرافيا المشتعلَة مجْرى النهر والتاريخ والريح، ينْحني للعاصفةِ حيناً ويستعيد «روحَ الفولاذ» (تعريب لعبارتيْ جان بولاد) أحياناً.جملةٌ واحدة من عشرين حرفاً كادتْ أن تقْلب المَشهد ومعه أشياء أخرى في بيروت... «مزارع شبعا ليست لبنانية»، قالها الزعيم الدرزي وليد جنبلاط فـ «قامت الدنيا ولم تقعد»، وسط بحرٍ هائج من التأويلات وحملاتِ التخوين والتحليلات ومحاولاِت سبر أغوار، فانهمر حبرٌ كثير وارتفعتْ أصابع، أما هو فقالَها و... مشى.جملةٌ اعتراضيةٌ في حوارٍ تلفزيوني كَشَفَ فيها عن اعتراضٍ مكتوم على التسليم بشرْعنةِ سلاحِ «حزب الله» كمقاومةٍ لم يعد هناك ما يبرّرُها، فالمزارع الملتبسة السيادة ليست لبنانية، وهي الجملةُ التي أيقظتْ ملفاً كان تَسَبَّبَ بالكثير من الشقاء السياسي وغير السياسي، قبل أن يجعله «حزب الله» مُسُلَّمَةً محرّمة سلّم بها الجميع مباشرةً أو مواربة.تيقّن جنبلاط، السياسيّ المسكونُ بسياسةٍ لا تستكين، فنّ «ما قلّ ودلّ». سبق ظهور الـ«تويتر» في التغريد، من داخِل السرب ومن خارجه أيضاً عندما كان يُميلُ الدفةَ يميناً ويساراً قبل التموْضع في الوسط، حين استحقّ لقب «بيضة القبان» في زمنِ انعدام الوزن، وربما هو يدفع الآن أثمان أدواره الصعبة من الأقربين والأبعدين، وكأن الجميع يريدون الاقتصاصَ منه.عندما تَجاوَزَ حي البربير في اتجاه محلّة المتحف (الخط الأخضر إبان الحرب) تحوّلتْ المعارضةُ المسيحيةُ للوصايةِ السورية معارضةً وطنيةً لبنانية بامتياز جَمَعَتْه مع مَن تَقاتَلَ معهم يوماً. شكّل رأسَ حربةِ «14 آذار» وانتفاضتِها قبل أن يُتّهم بالانقلاب عليها. أوّل مَن تجرأ على وصْف سلاح «حزب الله» في زمن الاغتيالات بـ«سلاح الغدر»، ثم اختار تطبيع العلاقة معه. ورغم إعلان «أبوّته» للمصالحة الدرزية - المارونية، ها هو يشكو من التعاطي معه كشريكٍ مُضارِب لتمثيل الأحزاب المسيحية.هذه الحرَكيةُ الدائمة أصابتْ الآخَرين بالحيرةِ في «مقاربة» جنبلاط، الزعيم السياسي، المثقّف النادر، القائد الحزبي، رأس الطائفة وعَصَبها، العالَمثالثيّ عندما يريد، الكيانيّ لو شاء، «العروبيّ» في الأصل، الكاريزماتيكي على الدوام، ابن المختارة وشاغِل العواصم، الأكثر جرأة في مراجعاتِه والأكثر إثارة في تَراجُعاتِه، الكائن السياسي الذي يحاول الإفلات من لعبةٍ لم يفلتْ منها بيت أبيه.في اشتباكه الأخير مع «حزب الله»، لم تكن «بحصة» آل فتوش سوى النقطة التي طَفَحَ معها كيْل جنبلاط. فالأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله، الذي كان أطلّ يوماً في خطابِ توبيخٍ لـ«الرؤساء والبطاركة والمفتين» وبلهجةِ الآمِر النهائي، قال لزعيم الحزب التقدمي الاشتراكي «ظبّطلي أنتناتك»، قبل أن يكشف جنبلاط أن نصرالله أوعز إليه بعدم مهاجمة إيران أو التعرّض لها.فرغم المهادنة التي يحرص عليها جنبلاط عبر سعْيه لتنظيم الخلاف مع «حزب الله» و«التيار الوطني الحر»، الذي تحوّل زعيمه العماد عون رئيساً للجمهورية، فإن القلقَ يُساوِرُه من خطةٍ مُمَنْهَجَةٍ لإضعافه ومحاصَرته بقرارٍ من النظام السوري، وهو لا يتوانى عن الإشارةِ إلى ماهر الأسد وعلي المملوك في تصويبه على الحملاتِ التي يتعرض لها ولا سيما في الجبل ومن داخل البيت الدرزي.فمن قانون الانتخاب إلى ما رافَقَ مجريات العملية الانتخابية قبل نحو عام، ومن العَراضة المسلّحة التي عَبَرَتْ عقرَ داره في المختارة إلى ملابسات ما جرى في الشويفات والجاهلية، ومن محاولة تركيبِ جبهةٍ من الدروز المُوالين للنظام السوري إلى سلوكِ «التيار الحر» في مقاربةِ العلاقات السياسية الداخلية... كلها وقائع جعلتْ جنبلاط في موقعِ الهجوم الدفاعي لـ«أننا لسنا قمةً سائغة».أحدُ آخِرِ حَبّات العنقود من السياسيين الماهِرين الذين لعبوا أدواراً مفصلية، في حُلوها ومُرها، على مدى أكثر من أربعة عقود، لا يحتاج لمَن يهمس في أُذُنِه بأن «حزب الله» المحلّي والإقليمي يدير معركةَ ترويضِه من الخلف لأسباب إستراتيجية أكثر مما هي ذات طبيعة داخلية. فجنبلاط الذي انحنى يوم وُضِع «المسدس على الطاولة» لم يبدّل اقتناعاته، بدليل «تَمَلْمُلِه» الدائم.ورأسُ جبلِ الجليد في التوتر المكتوم بين جنبلاط والحزب، واسمه معمل «أسمنت الأرز» لآل فتوش، وما يُحكى عن الاستثمار السياسي والأمني لآل الأسد، بدا وكأنه استعادة لمعركةِ عين دارا في الزمن الغابر (1711) بين الدروز اليمنيين والقيسيين، وإلا لماذا تعاطى «حزب الله» مع الأمر كأنه «معركة وجودية» دفعتْه إلى قطع العلاقة مع الزعيم الدرزي؟هذا السؤال يصبح أكثر إثارة في اللحظة التي يوحي الحزب، المهموم بالهجمة الأميركية وعصاها الغليظة، بأنه يحرص على «صفر مشكلات» مع القوى السياسية في الداخل، ما اضطره إلى تسجيل «سوابق» عكستْ إما تَسَرُّعاً و إما ارتباكاً واما سوءَ تقديرٍ على غرار ما حصل في ملفات عدة.لم يكن عادياً أو عابِراً أن يعتلي رئيس الكتلة البرلمانية لـ«حزب الله» والأكثر التصاقاً بـ«نخاعه الشوكي» النائب محمد رعد، المنبرَ في البرلمان ليعتذر عن إساءتين اقترف البوح بهما النائب نواف الموسوي وبانفعاليةٍ حين قال إن الرئيس الراحل بشير الجميل (اغتيل عام 1982) جاء على الدبابة الإسرائيلية وان الرئيس الحالي ميشال عون جاءتْ به بندقيةُ «حزب الله».ولم تكن موفّقة إطلاقاً حملةُ مكافحةِ الفساد التي أَطْلقها الحزب ونظّم لها عراضات إعلامية وجَعَلَها نصر الله بمصافِ «المعركة الجهادية»، بعدما حولّها سريعاً حملةَ تصفيةِ حساباتٍ سياسية مع خصْمه الأشرس الرئيس فؤاد السنيورة، فتهاوتْ سريعاً أيضاً عندما اكتشف الحزب أن محاذرته الاقتراب من الأقْربين لا تتيح له التصويب على الأبْعدين الذين يملكون الكثير من الحجارة لرشْقها على مَن يعتبرون أن بيته من زجاجٍ كثير.وهكذا فإن الحزب الذي وَضَعَ نائبه الموسوي في «الإقامة الجبرية» السياسية لبعض الوقت في تَطَوُّرٍ غير مسبوق، بدا حريصاً على حماية علاقته بالرئيس عون وتالياً بالبيئة المسيحية، وعكستْ لمْلمتُه السريعة للحملة على الحريرية السياسية ورموزِها رغبةً في حفْظ «شعرة معاوية» مع الرئيس الحريري وفي عدم استفزاز البيئة السنية.والمفارقةُ أن هذه العناية، التي تنْطوي في جانبٍ منها على حرصٍ على الصيانة الدائمة للتسوية الرئاسية في حدّها الأدنى، لم تنسحب على العلاقة مع جنبلاط وبيئته الدرزية بسبب «الودّ المفقود» بين الطرفين اللذين يتبادلان الريبة المكتومة التي تشبه «الجمر تحت الرماد»، جمرٌ يخفت حيناً ورمادٌ يتطاير أحياناً.وثمة مَن رأى في تعاطي «حزب الله» مع مشكلةِ معمل «أسمنت الأرز» وكأنها استحضارٌ لمناخاتٍ صاخبة من زمن «ثورة الأرز» بمبادرته إلى قرارٍ كبير بقطْع العلاقة مع الزعيم الدرزي، بدا أبْعد من مجرّد مسألةٍ إدارية ترتبط بإلغاء وزيرٍ جنبلاطيّ رخصةً مَنَحَها سَلَفُه الوزير من «حزب الله» لإقامةِ معمل الأسمنت، وأقرب إلى «بقِّ بحصٍ» سياسي.ولم يتوان جنبلاط عن الردّ على الرسالةِ بـ«أقسى منها» وفي السياسة أيضاً، حين نَفَضَ الغبار عن ملفّ مزارع شبعا التي يتعاطى معها المجتمعُ الدولي على أنها سوريّة محتلّة من إسرائيل تخضع للقرار 242 وتقع في نطاق عمل قوة «الأندوف» العاملة في الجولان، في الوقت الذي قضت الموجبات الإقليمية بالتعاطي معها على انها لبنانية لتبريرِ استمرار احتفاظ «حزب الله» بسلاحه بعد تحرير الجنوب في الـ2000.ورغم حملات التخوين وما قيل عن تحريم «حزب الله» على حلفائه أي علاقةٍ مع الحزب التقدمي الاشتراكي ورئيسه، فإن جنبلاط لم يتراجَع عن موقفه، ولم تؤدّ رعاية حليفهما رئيس البرلمان نبيه بري لقاء مصارَحة بين الطرفين إلى معاودةِ تعويم التفاهم الذي كان سارياً في شأن إدارة الخلاف بينهما في إطارٍ من تطبيع العلاقات لا تفجيرها.ويحلو للبعض القول إن جنبلاط الذي يكره «العقل الأسير» وما زال على موقفه المؤيّد للشعب السوري والمناهِض لنظام الرئيس بشار الأسد، يدرك حجمَ الخطر الناجم عن السلوك الإيراني - السوري، الذي غالباً ما يختصره بـ «الممانعة»، وهو يتصرّف كزعيمٍ يتجاوز وهجُه لبنان ولا يمكنه البقاء متفرّجاً في اللحظة التي تشي برياحٍ عاتية، وسط عجْزٍ عن صوغِ أي شبكة أمانٍ تحمي لبنان.ولم يكن كلام نصرالله العلني عن «أنتنات» جنبلاط مجرّد تهويلٍ لإبقائه في «بيت الطاعة» كبعض الذين علّقوا السياسة إلى أَجَلِ غير مسمى، بل ثمة مَن يتحدّث عن ارتيابِ «حزب الله» من مغزى بدء أيّ ديبلوماسي أميركي جولاته في بيروت بزيارة زعيم «التقدمي» الذي يحرص على محاوَرة الأميركيين رغم معارضته لبعض سياساتهم كـ«صفقة القرن» التي «تنقل فلسطين من مكان إلى مكان».