كنت وما زلت أقول - بكل ثقة - إن مصر هي هبة النيل، وهي نقطة تراكم الحضارات، لذا فإنها قادرة على التكيف مع كافة الظروف التي تمر بها، فهي شامخة وعميقة وقادرة على التأقلم مع مختلف الظروف التي تمر بها، ولأن الإنسان المصري هو نتيجة تراكم حضارات، سادت ثم بادت على أرض النيل المصرية، فإنه مبدع في كافة المجالات، وإنه قادر على انتزاع ما يستحق تبعا للظروف المحيطة به، وقادر على أن يبعث بالدهشة لدى الآخرين.وفي الدول المتقدمة في قارة أوروبا وفي الولايات المتحدة الأميركية وكندا، فإنك ستجد مصرياً له بصمة مرموقة في العلم والأدب والرياضة والتجارة والفنون على اختلاف اقسامها، وهذا لم يكن محض صدفة بل جاء كنتاج إنساني من أرض طيبة لها إنتاج إنساني راق.واليوم سنتحدث عن اسم فنان مصري أدهش الفرنسيين بصورة كبيرة، وما زال اسمه نجما ساطعا في سماء الابداع الفرنسي.انه الفنان التشكيلي النحات المصري محمود مختار، الذي عمل مديراً لمتحف جريفين في العاصمة الفرنسية باريس، وكان ذلك أثناء الحرب العالمية الاولى.ورغم أنه عاش منعماً في فرنسا إلا أن الحضارة المادية الغربية لم تكن قد أسرت فؤاده ولب تفكيره، فكان صامداً في وجه تلك الحضارة القوية، لأنه جاءها من تراكم حضارات عدة في مصر العروبة والإسلام.ويعتبر محمود مختار - صاحب تمثال نهضة مصر الشهير - أحد أهم النحاتين المصريين، وقد ولد في عام 1891م وتوفي في عام 1934م، ودرس في مدرسة الفنون الجميلة حيث برزت إبداعاته في مصر ثم في باريس، وبرزت إبداعاته منذ أن كان طفلاً حين كان يقوم بتشكيل الطين قرب الترعة، التي كانت المنبع الرئيس للبيئة، التي ترعرع فيها، ثم كانت انطلاقته حيث تم صقل الموهبة بالدراسة.ومن أهم ميزاته أنه ينطلق من هويته المصرية في تقديم أي تمثال، فجذب إليه عشاق الفن الحقيقي في فرنسا، خصوصاً النحت، بل إن الكثير من النقاد الفرنسيين تناولوا أعماله النحتية بإيجابية.وكان للأمير يوسف كمال - صاحب المدرسة الفنية - دور في تهيئة محمود مختار للمستقبل الباهر، ثم مدرسه، الأمر الذي يعكس الدور الذي يلعبه الآخرون في تمهيد الطريق نحو المواهب الشابة، كي تبدع كثيراً في المستقبل، ولعل هذا ما ينقصنا في الوطن العربي.وفي عام 1931م هاجم المرض مبدعنا فقرر العودة إلى بلده مصر الحبيبة، وكان قد أجرى عملية جراحية لم يتحمل جسده تبعاتها إلى أن توفي في عام 1934م، بعد أن كان له الدور الكبير في إنجازات كثيرة، منها إنشاء مدرسة الفنون الجميلة العليا وفي إيفاد البعثات للفنانين التشكيليين المصريين للدراسة في أوروبا، ثم بقيت إبداعاته ومتحفاً فنياً يحمل اسمه، وكان لوزارة المعارف دور كبير في ظهوره إلى النور في عام 1938م، حيث تم استرجاع الكثير من أعماله الواقعية، التي تتناسب مع شخصيته التلقائية، وكان أول فنان مصري يقيم تماثيله في الميادين العامة، لأنه يثق بأدواته الإبداعية، وقد تنازلت أسرته بعد وفاته عن أعماله الإبداعية للدولة، شرط أن تقيم لها متحفا خاصا، فكان ذلك في عام 1962م.
* كاتب وفنان تشكيلي كويتي