لم يكن الشرقُ الأوسطُ يوماً على هذا القدرِ الهائلِ من التحوّلاتِ اللاهبة... ربيعٌ وخريفٌ وصراعُ نفوذٍ، حروبٌ تَمْضي بلا هوادةٍ وحروبٌ تطرقُ الأبوابَ، مشاريع بأنياب ايديولوجية تُمَزِّقُ دولاً ومشاريع لسلامٍ مجهولٍ بقية الهوية، عالَمٌ عربي تحت سطوة ثلاثِ دولٍ غير عربية (إسرائيل، إيران وتركيا)، أنظمةٌ تتهاوى على وقْع صيحاتِ الحناجر وأنظمةٌ تُعانِدُ فوقَ بحرِ جماجم، شعوبٌ تخبو كأنها تُمْهِلُ وشعوبٌ تصْحو كأنّ شمسَها تشْرق من جديد.أميركا «المتردّدةُ» تديرُ اللعبةَ عن بٌعدٍ وتُراقِصُ الآخَرين فوق قواعد جديدة، روسيا «العائدةُ» بقوّةِ مأزقِ سواها لا تعْدو كونها شريكاً مُضارِباً، إسرائيل «المحظوظةُ» تَمْضي في قرْصنةِ الجغرافيا بعدما اغتصبتْ التاريخ، إيران المستشرسةُ تُقاتِل للاحتفاظ بأربع عواصم استعْمَرَتْ قرارَها، تركيا الحائرةُ تدْفع من الخلف مشروعَ صراعٍ يُعارِكُ في غير مكان، أما أوروبا المهمومةُ فكأنها مُراقِبٌ صوتُه غير مسموعٍ ودورُه غير مسموح.يكفي المرء أن يُفَلْفِشَ في جغرافيا المنطقة ليكتشفَ أن تاريخاً جديداً يُكتب بالحديد والنار والأحلامِ المتمرّدة والقبَضاتِ المرفوعةِ والصباحاتِ المؤجَّلة إلى حين... هكذا هو حالُ فلسطين الدائمة أبداً، ولبنان الجالس على ضفة النهر، والعراق المُتَمَلْمِل، وسورية المفجوعة، وتونس الأكثر اخضراراً، واليمن البائس، ومصر التي تُقاوِم كبْوتَها، وليبيا التي تزداد اشتعالاً، وإيران التي قَمَعَ أَسْوَدُها الأخضرَ النقيّ، وجزائر المليون سؤال التي جدّدتْ شبابَها، والسودان الذي يخْلع «النجومَ» ويحنّ لضوء القمر.ولم يكن أدلّ على هذا التدافُع المُنْقَطِع النظيرِ في المنطقة وعليها من الوقائع الصاخبةِ التي انطوتْ عليها مفكّرة أسابيع خَلَتْ... روبرت مولر أعاد «انتخاب» دونالد ترامب مرّتين، واحدةٌ قبل عامين ونيف وثانية بعد سنة وسبعة أشهر. سيّدُ البيت الأبيض وقيصرُ الساحة الحمراء شوهدا يقْترعان لفوز بنيامين نتنياهو. الأوّل أتى إليه بالجولان السوري والآخَر برفاتِ أحد جنوده من مخيم اليرموك، والربيعُ العربي الذي استبيح دمُه عادَ فأزْهَرَ بَراعِم من جديد في الجزائر والسودان.أما التطوّرُ الأكثر دراماتيكية والأشدّ صدى فكان إدراج الإدارة الأميركية الحرسَ الثوري الإيراني على لائحة الإرهاب. وإن بدتْ هذه الخطوة «مفاجأةً غير مفاجئة»، فإنها شكّلتْ في الأداء الأميركي نَقْلَةً «غير مسبوقة» وأَحْدَثَتْ صدمةً مدوّية لإيران وأَذْرُعِها لِما انطوتْ عليه من إشاراتٍ توحي بتغييرِ «قواعد اللعبة». فالحرسُ الذي يشكّل اليدَ الإيرانيةَ الطويلةَ هو في بادئ الأمر مؤسسةٌ عسكريةٌ رسميةٌ، وهو في نهاية المطاف الجيشُ العابِر للحدود.هذه الدفْعة الأميركية والقاسية على الحساب من الحربِ الناعمة ضدّ إيران وأذْرعها جاءت مع العدّ التنازُلي لإجراءاتٍ أشدّ صرامة في إطار العقوبات الرامية لإنهاك طهران مطلع مايو المقبل، الأمر الذي يجعل سلوكَ إيران، التي أطلقتْ موجةَ تهديداتٍ بـ«مكبرات الصوت»، تحت المعاينة وخصوصاً أن الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله انبرى كناطقٍ باسم المحور الموالي لطهران إلى التلويحِ بالخروج عن قواعد الاشتباك الحالية مع الأميركيين في المنطقة في حال لجأتْ الولايات المتحدة لتحريكِ مزيدٍ من الحجارة على رقْعة الشطرنج.فرغم أن المرشدَ السيد علي خامنئي كان رَسَمَ معادلةً حيال ما تواجهه بلادُه حين قال «لا حرب ولا تَفاوُض»، فإن ثمة اعتقاداً واسعاً بأن اشتدادَ «الكمّاشة» على طهران يجْعلها بين فكّيْ انهيارِ النظام من الداخل أو الحرب، وتالياً هي ستكون إما أمام خيارِ اقتيادها إلى الطاولةِ التي أَعَدَّها ترامب بعنايةٍ مع الشروط الـ 12، وإما أمام حربٍ تَشُنُّها لـ «قلْب الطاولة» أو تُشنّ على أذْرعها بعد أن يشكّل ضعفُها فرصةً ثمينةً لإسرائيل للتخلّص من النومِ في جوارِ تنّينٍ من الصواريخ.واللافت أنه لم يكن أنهى وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو إذاعة قرارِ وضْع الحرس على لائحة الإرهاب، وبطريقةٍ تُشْبِهُ «البيانات الرقم واحد» حتى عاد الحديثُ وبقوّةٍ عن احتمالاتِ انفجار الحربِ الكامنةِ تحت رماد الشرق الأوسط وفي مياهه الساخنة، وسط مقارباتٍ متباينةٍ لمَراكز الأبحاث والخبراء وقادة الرأي حيال مصير المنطقةِ المترنّحةِ أساساً فوق صفيحٍ ساخنٍ «حرب أو لا حرب»؟!... تلك هي المسألة بعدما بدا الجميعُ يرقصون فوق الخطوط الحمر.ورغم أن رئيس معهد الشرق الأوسط في واشنطن الدكتور بول سالم رأى، في مناقشةٍ لاتجاهاتِ الريح في المنطقة مع «الراي»، أن القرارَ الأميركي الجديد «جَعَلَ النار أكثر اشتعالاً تحت مياهٍ تغلي»، فإنه استبْعد حرباً لا يريدُها الجميع، وخصوصاً إيران القادرة على امتصاص تداعيات العقوبات القاسية عليها وانتظار الانتخابات الرئاسية الأميركية أواخر الـ 2020، فـ «إذا فاز ترامب مجدداً لن يكون أمام إيران سوى الذهاب إلى المفاوضات، أما إذا انتُخب رئيسٌ ديموقراطي فسيكون أمامها هامشٌ من المناورة لمعاودة تعويم التفاهم على الاتفاق النووي».ولم يُسْقِط سالم من الحسابِ إمكانَ حصولِ «تَحَرُّشاتٍ» ذات طبيعة عسكرية أو أمنية في هذه الساحةِ أو تلك، لكنه يرتكز في تَقْليلِه لاحتمال نشوبِ حربٍ إلى قراءةٍ لموازين القوى تؤشر إلى أن إيران ما زالت قادرةً على الصمود وعلى حمايةِ مرتكزات نفوذها في المنطقة في الوقت الذي لا يهوى الرئيسُ الأميركي الحروبَ، ولا رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مستعدٌّ للقيام بمغامراتٍ غير محسوبة، وتالياً فإن الستاتيكو الحالي مرشّحٌ للتمدّد إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية الأميركية.مدير معهد الشرق الأوسط للشؤون الإستراتيجية الدكتور سامي نادر يرى المَشهدَ من زوايا مُغايِرةٍ في مناقشته مع «الراي» لِما ستؤول إليه الكرةُ المُتَدَحْرِجَةُ بين الثلج والنار في المنطقةِ المَسْكونةِ بكوابيس لا حدّ لها. وفي رأيه «اننا على عتبةِ الخروج من حال اللا حرب واللا سلم بعد مغازي فوز نتنياهو وإدراج الحرس الثوري على لائحة الإرهاب الأميركية»، وهي المقاربةُ التي تسْتند إلى أن الوقائع تغيّرتْ أخيراً، إذ لم تكن إسرائيل ولا إيران ترغبان في اللجوء إلى الخيارات العسكرية وأبْديا تَعايُشاً مع ما كان سائداً.اليوم، في تقدير نادر، سنكون أمام واحدة من حربيْن «حربٌ خاطِفة تشنّها اسرائيل للإجهازِ على الصواريخ المنْتشرة على حدودها الشمالية عبر عمليةٍ محدودةٍ، أو حربُ استنزافٍ طويلةٍ تدْفع في اتجاهها إيران وتكون في ضوء إطالة أَمَدِها، قادرةً على انتزاع أثمان سياسية من الآخَرين»، وهي خلاصةٌ تستند لقراءةِ ما انطوى عليه «الصندوق الأسود» من متغيّراتٍ أخيراً.قراءتا بول سالم وسامي نادر جاءتا على النحو الآتي:
بول سالم:الجميع لا يريدون حرباً رغم الغليانوإيران قادرة على الصمود للانتخابات الأميركية
من قلب واشنطن «غرفة عمليات العالم» يقرأ بول سالم، في كفّ المنطقة وتحوّلاتها وما تنتظره، انطلاقاً من قرارِ الإدارة الأميركية الأخير بإدراج الحرس الثوري على لائحة الإرهاب في خطوةٍ شكّلت «تصعيداً خطيراً يرتبط في السياسة، بالضغوط التي تُمارِسُها إدارة ترامب لإرغام إيران على المجيء إلى طاولةِ المفاوضات وفق دفترِ شروطٍ يصْعب على الإيرانيين قبولُه، وتالياً فإنهم يفضّلون الانتظارَ إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية الأميركية ليبنوا على الشيء مقتضاه».ولأن الاندفاعةَ الأميركيةَ تشكّل ضغطاً تَصاعُدياً عليها، فإن طهران قد تلجأ، بحسب سالم، إلى «الردّ على التحية بمِثْلها، أي عبر ضغوطٍ لن ترقى إلى الحرب المباشرة، وفي إمكان إيران القيام بها في العراق ولبنان وسورية، وتحديداً في العراق نظراً لوجود قواتٍ أميركية ولوجود حلفاء لإيران»، من دون أن يستبعد بلوغ هذا الضغط حدَّ إخراج الأميركيين من «بلاد الرافدين».وفي تقدير سالم، المُتَحَدِّرِ من عائلةٍ لبنانية ديبلوماسية (والده إيلي سالم وزير خارجية أسبق) أنه «رغم قسْوة العقوبات فإن إيران لن تذهب إلى الحرب وهي قادرةٌ على الانتظار لسنة ونيّف، أي إلى حين الانتخابات الأميركية، خصوصاً أنها لا تعاني ضغطاً داخلياً كبيراً بعدما تَوَحَّدَتْ خلف الشعور القومي بسبب سياسة ترامب وسلوكه حيالها».لكن ماذا لو أعيد انتخاب ترامب لولاية ثانية... «عندها ستكون إيران أمام خيارٍ صعبٍ ولن يكون في إمكانها الصمود لخمس سنوات من الآن»، أجاب سالم الذي رجّح «ذهاب إيران إلى التفاوض مُرْغَمَةً لأن ما من مصلحةٍ لها في الاندفاع نحو الحرب، فالحرب مع إسرائيل لا تفيدها وكذلك مع أميركا، وتالياً على مَن ستكون الحرب؟!».«عضُّ الأصابعِ سيكون سيّدَ اللعبةِ على مدى نحو سنة»، قال سالم الذي عاود تأكيد «أن الإيرانيين قد يلجأون إلى الحرْكشة بالأميركيين، وفي العراق على أغلب الظنّ لأن في إمكانهم دفْع سياسيين عراقيين إلى الضغط في اتجاه العمل لإخراج القوات الأميركية، مما يعرّض واشنطن لخسارة العراق»، لافتاً إلى أنه «سيكون من حظِ إيران مجيء رئيسٍ من الديموقراطيين الذين يَطرحون أفكاراً ناعِمةً حيال طهران وملفّها النووي».مقولة إن إيران صارتْ محكومةً بمعادلة «انهيارٍ من الداخل أو الهروب إلى الحرب» غير مُقْنِعَةٍ لسالم، أولُ رئيسٍ عربي لمعهد الشرق الأوسط، الأكثر عراقة في واشنطن: «الانهيارُ الداخلي تحت وطأة العقوبات مُسْتَبْعَدٌ وبدرَجةٍ عالية، فرغم العقوبات والمَصاعب التي نَجَمَتْ عنها، فإن اللومَ يقع على الإدارة الأميركية، وهو اللومُ الذي تَوَحَّدَتْ خلْفَه إيران، وتالياً لن يكون أمامها سوى الصمود والعضّ على الجرح، وخصوصاً أنها ليست في وارد الذهاب إلى الحرب».ثمة مَن يعتقد أن النفوذَ الإيراني، والذي بلغ ذروتَه في المنطقة، بدأ مساراً تراجعياً بدليل رمزية «الهدايا» لنتنياهو من ترامب وبوتين في سورية، والتركيبة التي تعكس اللا غالب واللا مغلوب بين واشنطن وطهران في العراق، والصوت الإقليمي المخفوض لـ «حزب الله» الذي قرّر الالتصاق بالدولة، فهل صحيح أن قَوْسَ النفوذ الإيراني بدأ بالانحسار في سورية والعراق ولبنان واليمن على وقع الحربِ الناعمة الأميركية والأداء المتوازنِ لروسيا والدعم الذي تحظى به إسرائيل؟الصورة مغايرة تماماً في نظر سالم، الذي عبّر عن قراءةٍ معكوسةٍ حين بدا واثقاً من «أن النفوذَ الإيراني في المشرق العربي باقٍ إلى أَمَدٍ طويل ويزداد تطبيعاً»، مُلاحِظاً «أن النفوذ الإيراني يحظى برضى أميركي ويشكل حاجةً لروسيا»، ولافتاً إلى «أن النفوذَ الآخذ بالانحسار هو النفوذ الأميركي الذي خسِر سورية وقد يخسر العراق».ويتكئ مدير معهد الشرق الأوسط في خلاصتِه على مقاربةٍ قال فيها: «اعترافُ الإدارةِ الأميركيةِ بسيادةِ إسرائيل على الجولان لا صلةَ له بالنفوذ الإيراني بقدْر ما هو ترجمةٌ للعلاقة بين أميركا وإسرائيل، أي بين ترامب ونتنياهو في علاقتهما وأوضاعهما الداخلية وحاجتِهما لدعْم متبادَل، ولن يكون مفاجئاً أن يحظى نتنياهو بدعم ترامب في إمكان ضمّه لبعض أجزاء الضفة الغربية، كما سَبَقَ أن لوّح خلال حملته الانتخابية».أما المغزى السياسي لتسليم روسيا إلى نتنياهو عشية الانتخابات في تل أبيب رفات أحد الجنود المفقودين خلال اجتياح لبنان العام 1982 بعد العثور عليها في مخيم اليرموك في سورية، فهو «من ضمن السياسة الروسية لتهدئة الوضع بين إسرائيل والنظام السوري، وسعياً لضمان الحصول على دعْم إسرائيل لعملية تعويم الرئيس بشار الأسد، وإمكان قيام تل أبيب بالضغط على الرئيس ترامب للقبول بهذا الأمر»، رغم استبعاد سالم استجابة واشنطن أو أوروبا للرغبة الروسية.وفي العراق، فإن المسار أكثر تعقيداً «صحيح أنّهم اتفقوا على برهم صالح (الرئيس) وعادل عبدالمهدي (الحكومة) و(محمد) الحلبوسي (البرلمان)/ لكن العنوان الأكثر إثارةً هو هل ستبقى القواتُ الأميركية في بلاد ما بين النهرين»؟ سَأَلَ سالم ثم أردف: «أعتقد أن ثمة احتمالاً كبيراً بأن لا تبقى... أساساً هي انسحبتْ أيام باراك أوباما ثم عادتْ لأن العراق، وإيران أيضاً، احتاجا وجودَها ووجودَ طيرانِها لمواجهة داعش».المُفاجئُ في توقّعات سالم أنه «في الأشهر المقبلة قد يَخْرُجُ الأميركيون من العراق ويحلّ مكانَهم الروس، لأن المَشهد صار مختلفاً والطيران الروسي أثْبت فعاليةً عالية في الحرب على منظماتٍ مثل داعش في سورية، وموسكو تتمتّع بتحالفٍ مع إيران التي تجعلها مثل هذه الاتجاهات أكثر ثباتاً في حفْظِ نفوذها في الشرق العربي».وفي تقويمه «أن لا مشكلةَ للولايات المتحدة مع النفوذ الإيراني إذا التزمتْ طهران حيال تل أبيب بعدم الاقتراب من الجولان وعدم زيادة الأنظمة الصاروخية في اتجاه إسرائيل والسعودية»، معتبراً أن «ترامب غير مهتمٍّ، بدليل أنه سلّم سورية لروسيا وإيران ويميل إلى عدم البقاء فترةً طويلةً في العراق ولم يفعل الشيء الكثير في اليمن».وفي الخلاصة رأى سالم «أن النفوذَ الإيراني في الشرق العربي طويل الأمد وما من شيء يؤثّر عليه إلا إذا حصلتْ تغييراتٌ في الداخل الإيراني»، لافتاً إلى أن «الروس راضون بالوجود الإيراني إذ إنهم عبْره يعززون حضورهم أيضاً في سورية والعراق وفي لبنان الذي يشهد تَمَدُّداً للحضور الروسي في قطاعات عدة فيه كالأمن والغاز... إننا أمام نفوذٍ إيراني وروسي أكثر وأميركي أقلّ».
سامي نادر:المنطقة أمام واحدة من حربيْن إسرائيلية خاطفةأو إيرانية شبيهة بسيناريو 2006
مدير معهد الشرق الأوسط للشؤون الإستراتيجية الدكتور سامي نادر يرْسمُ من بيروت لوحةً داكنةً لمنطقةٍ فوق برميل بارود... فبيروت التي تشكل مجسّماً حياً للشرق الأوسط ولاعبيه، تبدو كأنها مَسْرَحٌ ولو «صامِتٌ» لحروبِ المنطقة الباردة والساخنة على حد سواء... «حزب الله»، إيران، إسرائيل، عقوبات، نازحون ونفط، عناوينُ صاخبةٌ في دولةٍ يَحْكُمُها الخواء السياسي وتَنْهَشُها أزماتٌ اقتصاديةٌ - ماليةٌ يَتَعاظَمُ معها شَبَحُ الانهيار.ولأن العينَ على إيران الآن، يعتقد نادر أن «معادلةَ لا حرب لا تَفاوُض كانت ملائمة لإيران وإسرائيل قبل الوقائع الأخيرة (فوز بنيامين نتنياهو وإدراج الحرس الثوري الإيراني على لائحة الإرهاب). وكان من مصلحة الطرفين الإبقاء على مستوى من التوتّر لا ينْزلقُ إلى حربٍ ولا يَسْتَدْعي تَفاوُضاً، وخصوصاً أن باب التفاوض كان مقفلاً أمام إمكان التوصل إلى اتفاق نووي آخر يُبْعِدُ شبحَ استعمال الكيماوي إلى أبد الآبدين ويحْسم مسألةَ الصواريخ الباليستية وانتشارها».ويرى أن «موازين القوى تَغَيَّرَتْ اليوم وأصبحتْ لمصلحةِ إسرائيل بعد فوز نتنياهو الذي يُكَرِّس نفوذَه أكثر في الداخل في ضوء الانتخابات التي تم الاقتراع فيها للأمن أولاً، وسط تغييبٍ كاملٍ لخياراتِ السلام وانحسارِ اليسار الإسرائيلي وشعاراته وتَراجُعِ حلّ الدولتين، مقابل تَقَدُّم اليمين وتَأَطُّرِه حول مسألتيْ أمنِ إسرائيل وهويّتها».هذا التوجّهُ الذي يؤشر الى مزيد من العقوبات على إيران حمايةً لأمن إسرائيل يتلاقى في رأي نادر مع «مناخٍ دولي تَغَيَّرَ عمّا كان عليه في التسعينات أيام حكم شمعون بيريز وإسحاق شامير. فما من أحدٍ يعترض الآن على يهودية دولة إسرائيل، وقد نجح نتنياهو في إقامة شبكةِ علاقاتٍ دولية واسعة تجلّت بعض مظاهرها في هدايا ترامب وبوتين (الجولان والرفات)، وفي زيارات (الرئيس البرازيلي جايير) بولسونارو و(رئيس الوزراء المجري) فيكتور أوربان و(نائب رئيس الوزراء وزير الداخلية الايطالي) ماتيو سالفيني. وتالياً فإن إسرائيل لم تعد في عزلةٍ ديبلوماسية كما كان الحال إبان حكم باراك اوباما».وفي تقديره أن «عقوباتٍ أكثر على إيران وعزلةٍ أقلّ لإسرائيل تجعل طهران أمام واحد من أمريْن: إما التفاوضُ على غرار ما حَدَثَ مع كوريا الشمالية، وتكون بذلك العقوبات فعلتْ فعْلها في دفْع طهران للقبول باتفاقٍ نووي يلبّي شروط ترامب، وإما الذهاب الى مواجهةٍ عسكريةٍ بعدما انتهتْ صلاحيةُ معادلةِ الـ لا حرب والـ لا سلم».نادر، الخبير في التواصل الإستراتيجي منذ أكثر من ربع قرن يرجّح اندلاع واحدةٍ من حربيْن: «العمل العسكري أصبح أكثر احتمالاً، إذ لم تكن إيران سابقاً تريد فَتْحَ جبهةٍ جديدة بالتوازي مع تَوَرُّطِها في سورية والعراق واليمن، ولم تكن إسرائيل أيضاً في واردِ ركوبِ أيّ مخاطرةٍ عسكرية قبل الانتخابات، أما الآن وفي ضوء الوقائع الأخيرة فإن الخيار العسكري أصبح على الطاولة عبر فرضيتيْن:• «إمكان أن تلجأ إسرائيل إلى عمليةٍ عسكريةٍ لإزالةِ خَطَرِ الصواريخ المنْتشرة على حدودها الشمالية، وتكون عمليةَ محدودةَ هدفُها تحقيقُ أمنِها الذي شكّل العنوان الأبرز في حملات الطرفين اللذين تنافسا في انتخابات الكنيست أخيراً»، من دون أن يستبعد «أن يتم ذلك بغض نظر من روسيا أو تواطئها لأن موسكو تفيد من أي ضربة موجعة تُضْعِف إيران من دون ان تؤدي إلى هزيمتها أو خروجها من سورية، فروسيا تحتاج لإيران ضعيفة إلى الحدّ الذي يجعلها تحتاج الى روسيا».• «احتمال ذهاب إيران إلى الخيار العسكري للخروج من مأزقها ولجرّ إسرائيل إلى حرب استنزافٍ (لا حرب خاطفة) شبيهة بحرب يوليو 2006، التي يصبح فيها مجرّد الصمود انتصاراً، أي ألا تُهزم ولا تُمَكِّن العدو من تحقيق أهدافه وعلى النحو الذي يؤدي تالياً إلى تفاوضٍ ديبلوماسي لإنهاء الحرب مقابل ثمن سياسي».فسيناريو الحرب، في نظر نادر، أكثر حظوظاً: «وإذا جاء من إسرئيل سيكون سريعاً وهدفُه نزْع الصواريخ التي صارت تشكل قلقاً فعلياً لتل أبيب، وإذا جاء من إيران سيكون لاستنزاف الطرف الآخَر لاستدراجه إلى مفاوضات لقاء ثمن سياسي يفرضه الصمود العسكري».وفي قراءته للبوصلة الإقليمية وتَمَوُّجاتها على وقع صراعِ النفوذ المتعاظِم في المنطقة، بدا نادر حاسماً في القول: إن النفوذ الإيراني تراجَع على وقع سلسلةٍ من الضربات التي مني بها، وأهمها: • سقوط الموصل في يد «داعش» الذي يشكل تهديداً للنفوذ الإيراني وقطْع الجسر الذي امتدّ من طهران إلى المتوسط.• قبول إيران بالتدخل الدولي في العراق لمواجهة «داعش» والتهديد الوجودي الذي شَكَّلَهُ لنفوذها، رغم أن هذا التدخل كان على حساب هذا النفوذ وتَمَدُّده.• وصول ترامب إلى البيت الأبيض، والملك سلمان بن عبدالعزيز إلى سدّة الحكم في السعودية، وإلى جانبه ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، مما أنهى سياسة المهادنة مع إيران ونفوذها، لتحلّ مكانها سياسة العزل، وهو ما تُرجم بوقف تدهور الأمور في اليمن، وبالتحالف الأميركي مع الأكراد في سورية للقضاء على «داعش».• بدء الحرب الاقتصادية على إيران وحلفائها، والآخذة بالاشتداد في وقْعها وكلفتها ونطاقها، وهو ما ينعكس على موازين القوى في المنطقة وعلى الأوضاع الداخلية في إيران على حد سواء.• التدخّل الروسي في سورية الذي رغم أنه جاء بطلبٍ من إيران لكنه كان على حساب نفوذها، فالوجود الإيراني في سورية لم ينتهِ لكنه الأقلّ حضوراً بالمقارنة مع أدوار أربع دول هي روسيا وتركيا وأميركا في الشمال، وإسرائيل التي ما زالت تملك هامشَ المناورة في الجنوب وحرية الحركة في الأجواء.خلاصات مقاربة نادر مبنيةٌ في جوانب منها على تَعَدُّد اهتماماته كخبيرٍ في الشؤون الاقتصادية والجيو- سياسية للمشرق، وفي مجالات الاتصالات وبرامج السياسة العامة والحدّ من الفقر، ما يجعل «أحكامه» حيال اتجاهات الصراع على الجبهات المترامية في المنطقة «ما فوق سياسية» وتستندُ إلى عناصر عدة تلعب دوراً في تحديد الأجندات وموازين القوى والمصالح والتحالفات.وكلامُه أن الخيار العسكري بات على الطاولة ينطلق من «التحول العميق الذي أنهى مرحلةَ المهادنة التي كانت تمارسها الولايات المتحدة ودولٌ عربية وأوروبية»، داعياً «للتوقف ملياً أمام مغزى اقتراع الإسرائيليين للأمن»، من دون إهمال «الحَشْرة الإيرانية بعد إدراج الحرس الثوري على لائحة الإرهاب الأميركية كجزءٍ من الحرب الناعمة».