إن ما يعانيه المثقف في وطننا العربي هو: التبعية الفكرية لأنصاف المثقفين، والانقياد والإذعان لموجات الطبول والدفوف للشعارات المزيفة التي يتمترس بها صغار القوم والدخلاء من أجل تحقيق مآرب شخصية. لقد سئم المثقف العربي رؤية من يتشدق ببريق الشعارات الرنانة، ويحرق البخور لهؤلاء، ويتملق لهؤلاء ويتزلف لهؤلاء.إن عزاء المثقف في الوطن العربي هو: الإسفاف بحقوقه العلمية، وعدم فهم البعض لقيمة ومكانة الإنسان؛ فالبعض ومن لهم سلطة الكرسي يحلو له أن يعامل من يرأسهم وكأنهم قطيع من الأنعام يسيرهم على ما يهوى ويحب، ويجردهم من حرية إبداء الرأي واستقلال الفكر، بل ويصادر فكرهم ويقنن خطواتهم، ويحد من إبداعهم بقوة الكرسي أو المنصب الذي تبوأه بطريقة أو أخرى.لذلك فإن المثقف دائما وأبدا ينشد الاستقلال الفكري، متضجراً من هذه العقليات المريضة بداء السلطة والتسلط.لعل الخطأ الشائع في يومنا هذا هو: الخلط بين المثقف والمتعلم، وأذهب بذلك إلى فرق رئيس وجوهري، وهو أن المتعلم فهمه وإدراكه يقتصران على علم واحد لا يتجاوزه. نعم من الممكن أن يبدع فيه، ولكنه يظل فاقدا لتطور عجلة الزمن. أما المثقف قد يكون إنساناً لم ينهل من العلم وقراءة الكتب الشيء الكثير، ولكنه مارس الحياة، وخالط المجتمع، وأصبح قلبه النابض، يتألم لألمه، ويفرح لفرحه، وعندما يصارع الفرد معترك الحياة يصبح أكثر نضجاً، وأشمل وعياً، وأوسع حنكة لما قد يعتريه من المجتمع ومن المصابين بداء النفاق الاجتماعي، وفي ذلك يقول الدكتور عبد السلام الشاذلي، في كتابه (شخصية المثقف): «المثقف من حيث هو إنسان شديد التأثير في البيئة الاجتماعية المحيطة به، كما أنه في الوقت نفسه إنسان شديد التأثير في وسطه الاجتماعي، وهو في محيط عالمه وعصره وذلك لما له من قوى فكرية خاصة ومواهب روحية ونفسية متميزة». أ.هـ.لذا؛ أرى أن المثقف نتاج مرحلة ذات ظروف معينة، قد تكون سلبية، وقد تكون إيجابية على أنه لا يمثل ولا يتمثل برموز هذه المرحلة، يقول جان بول سارتر، في كتابه (الدفاع عن المثقفين): «لنقل إن المثقف يتحدد بأنه ذلك الإنسان الذي لا يحمل تفويضا من أي إنسان ولا يتعين له كيانه أي سلطة وهو بصفته هذه ليس نتاج قرار من القرارات، كما هو شأن الأطباء والأساتذة».أ.هـ.ونعود إلى المثقف في الوطن العربي: فمن الأمور المسلم بها أن الوطن العربي في ظل النفوذ العثماني أصيب بالشلل الفكري بعد أن كان سيد الموقف، وهذا الجمود نتج عنه اضمحلال علمي وأدبي هدد العقلية العربية المضطهدة من النزعة العثمانية، هذه النزعة التي طوقت علوم العرب السائدة من ذي قبل، فجاء الغرب ليرفع الحصار العثماني عن علوم العرب وحضارتهم، يقول الدكتور نجيب العقيقي ، في كتابه (من الأدب المقارن): «استيقظت مصر من ركودها الثقافي على حملة نابليون (1798 – 1801) الذي اصطحب معه نخبة من علماء التاريخ والطبيعة والرياضة والآثار، والطب، والهندسة، والاستشراق ضم إليهم مجموعة من المترجمين العرب... وبأمر نابليون تأسس في مصر: معهد مصر، والمجمع العلمي المصري، ومطبعة عربية فرنسية اصطحبت بعضها من فرنسا والنصف الآخر من الفاتيكان فصدرت عنها ثلاث صحف: واحدة منها بالعربية: 29 /‏ 8 /‏ 1798م، ومصنع، ومرصد ومسرح، ولم يكن للمصريين عهد بها، فأتيح لهم الاطلاع عليها والإفادة منها... ولما ولي محمد علي، أمر مصر (1849 - 1858) أسس مطبعة بولاق - المطبعة ألأميرية (1821) ومطبعة القلعة (1828) ومطبعة رأس التين (1820) وعاصر اللبنانيون - ومعظمهم يتقن عدة لغات - النهضة العربية المصرية». أ.هـ.نفهم من ذلك أن مصر كانت نقطة بداية الانطلاق الثقافي العلمي الذي اندرج فيما بعد على العالم العربي، والذي زعزع أعمدة العالم العربي وقام باقتلاع جذور العقليات المغلقة والمتخلفة عن ركب الحضارة والمدنية المعاصرة. ولكن هل استقر ونجح؟! لربما مازال الفكر العربي يخوض صراع أمراض عقلية رجعية إلى يومنا هذا، صراع بين الفكر المتجدد، والعقل المتحجر، وعلى امتداد الوطن العربي تعرض المثقف العربي لاضطهاد زمرة فاسدة ونبذته التيارات المختلفة، وكرهته المذاهب المتعددة.

* كاتب وباحث لغوي كويتيfahd61rashed@hotmail.com