حديثنا اليوم سيكون حول بر الوالدين، وقد يقول البعض إن الموضوع معروف، لدى الكثيرين، ولاحاجة لإثارته، ولكننا نقول إن حالات عقوق الوالدين موجودة وملموسة في مجتمعاتنا الإسلامية بدليل وجود دور العجزة التي يتخلى فيها بعض الأبناء عن والديهم، أو يضطهدانهما، وكذلك نسمع بحالات عقوق الوالدين بأوجه ودرجات مختلفة تثير الأسى في النفس، حيث يجرؤ بعض الأبناء على طرد أمهاتهم من المنزل، ويقوم البعض الآخر بضرب آبائهم مثلا، وهي حالات تم رصدها بمجتمعاتنا الإسلامية للأسف الشديد. مفهوم بر الوالدينهو ما كان ضد العقوق، فقد قال ابن منظور في تعريفه مايلي: «والبر ضد العقوق، والمبرة مثله، وبررت والدي: بالكسر أبره برا، وقد بر والده يبره ويبره برا، فيبر على بررت، ويبر على بررت»، وقال في موضع آخر:«ورجل بر من قوم أبرار، وبار من قوم بررة، وروي عن ابن عمر أنه قال: إنما سماهم الله أبرارا لأنهم بروا الآباء والأبناء»، ومما قاله ابن الأثير يرحمه الله في تعريف البر:«البر بالكسر الإحسان، ومنه الحديث في بر الوالدين: وهو في حقهما وحق الأقربين من الأهل ضد العقوق: وهو الإساءة إليهم والتضييع لحقهم»، وبالنظرة الاصطلاحية نقول إن بر الوالدين: هو الإحسان إليهما، بالقلب، والقول، والفعل تقربا إلى الله تبارك وتعالى بأحسن العمل.ولنتعرف معا على الحكم التكليفي لبر الوالدين، فقد اعتنى الإسلام بالوالدين بشكل مكثف وكبير، حيث إن طاعتهما وبرهما تعد من أفضل القربات إلى الله تبارك وتعالى، ونهى الإسلام نهيا صريحا عن عقوقهما. قال الله تبارك وتعالى في سورة الإسراء وقوله الحق «وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا».ولو تفحصنا الآيات لأدركنا عظم مكانتهما عند الله جل وعلا، فقد أمرنا بأن نعبده، ولا نشرك به شيئا، وقد قرن سبحانه وتعالى بر الوالدين بعبادته، وفيها الوجوب والإلزام، والأمر. كما قرن الله سبحانه وتعالى في سورة لقمان شكر الوالدين بشكره بقوله عز وجل:«أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير»، فيكون الشكر لله عز وجل على نعمة الإيمان، ويكون شكر الوالدين على نعمة التربية الصالحة. وبرواية البخاري في حديث الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم عن عبدالله بن مسعود قال: «سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أحب إلى الله عز وجل؟ قال: الصلاة على وقتها قال: ثم أي؟ قال: بر الوالدين قال: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله». وهنا يرشدنا الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم أن بر الوالدين من أفضل الأعمال بعد الصلاة، والتي هي دعامة من دعائم الإسلام. ونشير هنا إلى ما قاله سفيان بن عيينة فقد قال رحمه الله:«من صلى الصلوات الخمس فقد شكر الله تعالى، ومن دعا لوالديه في أدبار الصلوات فقد شكرهما». ولا ينحصر بر الوالدين بكونهما مسلمين، بل وإن كانا على ملة أخرى، أوحتى كافرين، فإنه ينبغي على الأبناء برهما، والإحسان إليهما، ما لم يأمرا أبناءهم بشيء من الشرك أو معصية لله عز وجل.كيف يكون بر الوالدين؟ويأتي سؤال مهم هنا وهو: كيف يكون البر بالوالدين؟ وقد سئل الشيخ صالح فوزان الفوزان عن الأعمال التي تنفع وتفيد الوالدين أحياء وأمواتا فقال: الأعمال هي برهما في حياتهما، والإحسان إليهما بالقول والعمل، والقيام بما يحتاجانه من النفقة والسكن وغير ذلك والأنس بهما، والكلام الطيب معهما وخدمتهما، خصوصا في كبرهما‏.‏ أما بعد الممات فإنه يبقى من برهما أيضا الدعاء والصدقة لهما والحج والعمرة عنهما وقضاء الديون التي في ذمتهما، وصلة الرحم المتعلقة بهما وكذلك بر صديقهما وتنفيذ وصاياهما المشروعة. وهكذا يكون بالإحسان إليهما، والقول اللين، والترفق بهما، ومحبتهما حبا كبيرا، وتجنب عثرات اللسان بغليظ وخشن الكلام والقول الذي يسبب ضيقهما وألمهما النفسي وجرح مشاعرهما، وعلى الأبناء مناداتهما بما يحبان من الكلام والألقاب، ومعاشرتهما بالمعروف بكل مايجيزه الشرع، وطاعتهما في كل ما يأمرانه به، والابتعاد عما يأمران بتركه ما لم يكن في المسألة أذى أو ضرر.وإن من بر الوالدين أيضا عدم محاذاتهما عند المشي معهما أو التقدم عليهما بالمشي، إلا في حالة الضرورة والاضطرار مثل الظلام الحالك خوفا عليهما، وكذلك ينبغي عدم الجلوس عند الدخول عليهما إلا بإذن منهما، ولا يقوموا إلا بإذن منهما، ولا يستقبح الأبناء منهما أمرا في حال كبرهما وعجزهما بمرور الزمن لأن ذلك مما يؤذي مشاعرهما ويجرح قلبيهما، قال الله تبارك وتعالى في سورة النساء:«واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا». وقال ابن عباس:«يريد البر بهما مع اللطف ولين الجانب، فلا يغلظ لهما في الجواب، ولا يحد النظر إليهما، ولا يرفع صوته عليهما»، ومن المهم أن نذكر هنا أن من أوجه البر بالوالدين والإحسان إليهما عدم الإساءة إليهما والتطاول عليهما بالسب أو الشتم، أو الإيذاء النفسي أو الجسدي، فذلك الفعل يعد من الكبائر بإجماع العلماء، هذا وقد ورد في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إن من الكبائر شتم الرجل والديه، قالوا: يا رسول الله: وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: نعم، يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه»، وفي رواية أخرى قال عليه السلام: «إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه. قيل: يا رسول الله وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: يسب أبا الرجل فيسب الرجل أباه» وإن من بر الوالدين أيضا صلة من كان ودا لهما، فقد ورد في الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إن من أبر البر صلة الرجل أهل ود أبيه بعد أن يولي، فإن غاب أو مات يحفظ أهل وده ويحسن إليهم، فإنه من تمام الإحسان إليه».مكانتهما عند الله عز وجل لقد قرن الله تبارك وتعالى بر الوالدين والإحسان إليهما بعبادته عز وجل، وكذلك قرن شكرهما بشكره جل وعلا، وقد جعل الله سبحانه وتعالى بر الوالدين أفضل مرتبة من الجهاد، ونستند في ذلك لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الجهاد فقال «أحي والداك؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد، و قال: أقبل رجل إلى رسول الله فقال: أبايعك على الهجرة و الجهاد أبتغي الأجر من الله، قال: فهل من والديك أحد حي ؟ قال: نعم بل كلاهما حي قال: أفتبتغي الأجر من الله ؟ قال: نعم، قال: فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما»، وهكذا أقر العلماء بأنه لا يجوز خروج الإنسان للجهاد إلا بإذن والديه شرط أن يكونا مسلمين، لأن بر الوالدين هو فرض عين، بينما الجهاد فرض كفاية، ولكن في حال أصبح الجهاد فرض عين فإن الحكم في ذلك يتغير، وبالتالي لا يشترط إذنهما للخروج، لأن الجهاد أصبح حينها فرضا على الجميع.ولابد أن نشير إلى إن بر الوالدين يجلب رضى الله سبحانه وتعالى، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «رضى الرب في رضى الوالد، وسخط الرب في سخط الوالد». وكذلك فإن برهما سبب من أسباب دخول الجنة، فعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «الوالد أوسط أبواب الجنة، فإن شئت فأضع ذلك الباب أو احفظه». وعن معاوية بن جاهمة رضي الله عنهما أن جاهمة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال «يا رسول الله، أردت أن أغزو وقد جئت أستشيرك؟ فقال: هل لك من أم؟ قال: نعم، قال: فالزمها فإن الجنة تحت رجليها»، ولنا أن نقرأ هنا دعاء الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «رغم أنفه. ثم رغم أنفه. ثم رغم أنفه. قيل: من؟ يا رسول الله! قال: من أدرك والديه عند الكبر، أحدهما أو كليهما، ثم لم يدخل الجنة»، وقال الإمام القرطبي في تعليقه على هذا الحديث «وهذا دعاء مؤكد على من قصر في بر أبويه، ويحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون معناه: صرعه الله لأنفه فأهلكه، وهذا إنما يكون في حق من لم يقم بما يجب عليه من برهما. وثانيهما: أن يكون معناه: أذله الله، لأن من ألصق أنفه - الذي هو أشرف أعضاء الوجه - بالتراب - الذي هو موطئ الأقدام وأخس الأشياء - فقد انتهى من الذل إلى الغاية القصوى، وهذا يصلح أن يدعى به على من فرط في متأكدات المندوبات، ويصلح لمن فرط في الواجبات، وهو الظاهر، وتخصيصه عند الكبر بالذكر - وإن كان برهما واجبا على كل حال- إنما كان ذلك لشدة حاجتهما إليه، ولضعفهما عن القيام بكثير من مصالحهما، فيبادر الولد اغتنام فرصة برهما، لئلا تفوته بموتهما، فيندم على ذلك».وإن من عظم حق الوالدين في البر أن حرم الله تبارك وتعالى الجنة على من عق والديه ولم يبرهما، ونجد ذلك في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«ثلاثة قد حرم الله تبارك وتعالى عليهم الجنة: مدمن الخمر، والعاق، والديوث الذي يقر في أهله الخبث». وماذا عن بر الوالدين بعد موتهما ؟ هل يستطيع الأبناء بر والديهم بعد موتهما والجواب: بالطبع خاصة من فاته برهما أحياء، ويكون ذلك الاستغفار لهما، وذلك لقوله سبحانه وتعالى، وقوله الحق في سورة ابراهيم ذاكرا دعاء إبراهيم «رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب»، ولاننسى أهمية الدعاء للوالدين بعد وفاتهما، وقد ورد ذلك في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له». ولابد من الالتفات لموضوع قضاء الدين عن الوالدين بعد وفاتهما.وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما، «أن امرأة ركبت البحر فنذرت، إن الله تبارك وتعالى أنجاها أن تصوم شهرا، فأنجاها الله عز وجل، فلم تصم حتى ماتت، فجاءت قرابة لها إما أختها أو ابنتها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكرت ذلك له، فقال: أرأيتك لو كان عليها دين كنت تقضينه؟ قالت: نعم. قال: فدين الله أحق أن يقضى، فاقض عن أمك». وهناك أمر مهم جدا في بر الوالدين بعد وفاتهما ويكون بالتعجيل في تنفيذ وصية الوالدين، وكذلك التواصل مع الأصدقاء والاحباء للوالدين بعد موتهما، وقد ورد ذلك في حديث ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «إن أبر البر صلة الولد أهل ود أبيه»، ولاننسى الصدقة، فهي مهمة للميت، فينبغي التصدق عن الوالدين، وقد ورد ذلك في حديث سعد بن عبادة رضي الله عنه، أن أمه توفيت، فقال «يا رسول الله إن أمي توفيت وأنا غائب عنها، فهل ينفعها شيء إن تصدقت به عنها؟ قال: نعم. قال: فإني أشهدك أن حائطي بالمخراف صدقة عليها؟ ».نسأل الله عز وجل أن يهدي الأبناء لبر والديهما، وأن يحسنوا إليهما، وإن فات البعض ذلك بوفاتهما، فليتذكروا برهما أمواتا.