استفاد المخرج الجزائري محمد لخضر حامينة، من تجربته مع المخرج الجزائري جمال شندرلي، في إخراج فيلم «ياسمينة» حينما قاما بجمع الجزئيات ليصنعا منها مكونا من مكونات المجتمع الجزائري العريق، مما حدا بالمخرج حامينة، يعيد الكرة مرة أخرى منفرداً في هذا الفيلم؛ ليجمع الجزئيات ويصنع منها مكونا من مكونات الثورة الجزائرية، هذه الجزئيات هي في الحقيقة ترمز لأشياء عدة، فعلى سبيل المثال تجد في العمل الجماعي رمزية الوحدة والقوة والـتآلف والإخاء والتعاون والتكافل ووحدة المصير وغيرها، على ألاّ نغفل رمزية الصمود والشجاعة والبسالة؛ ففي الوقت الذي تقصف فيه مدفعية المستعمر مواقع المناضلين في الجبال؛ نجد أهل القرية بكل شجاعة يخرجون ويمارسون حياتهم اليومية وكلهم أمل نحو مستقبل حر. فـ«الفأس» رمز للتجديد وتقليب الأمور؛ فإذا كان المستعمر اليوم يسيطر على زمام الأمور من أعلى السلطة؛ فغدا سيكون في الدرك الأسفل وستطأها أقدام المجاهدين، كما للفأس رمزية أخرى؛ فهي ترمز للعيش من خيرات الأرض، ورمز للعمل الشريف بجد واجتهاد، رمز لزراعة جديدة ولجيل جديد، ومن الرمز إلى الرمزية فنرى في هذه الفأس رمزية التجديد. «البناء» يرمز للملكية والأحقية والبقاء والمستقبل والاستقرار والستر والحماية. «المعول» يرمز للرجولة والقوة وتذليل العقبات وإزالة العوائق والتقدم، ويرمز إلى الهدم وهنا تأتي رمزية هدم كل ما أقامه المستعمر على أرض غير أرضه، هدم السجون والمعتقلات والثكنات العسكرية وغيرها. «الطين» رمز لأصل الإنسان، والطين رمز للالتصاق بالمكان وهو مكون من مكونات الهوية والمواطنة والانتماء. و«الماء» رمز لاستمرار الحياة. ويجنح بنا المخرج إلى استعراض عدة رموز؛ فـ«الوضوء» رمز للطهارة والنظافة والنقاء؛ طهارة النفس من كل رجز، ونظافة البدن من كل قذارة ووساخة علقت به، ونقاء الروح من كل ريب وشك بوحدة الواحد الجبار، إن وضوء الحاج والد لخضر وكبير القرية للصلاة تحت قصف المدافع؛ هي طمأنينة وعلاقة حميمة تصل المؤمن بربه وإيمانه بقدره؛ فليس المستعمر من يقرر قدر الناس، إنما الله عز وجل هو من يقرر قدر عباده. ويضيف إليها صورة أخرى لا تقل رمزية عن سابقتها ألا وهي الصلاة الجماعية لرجال القرية في الفضاء الطلق؛ فالجماعة رمز للقوة والتماسك والاتفاق، والفضاء الطلق رمز للحرية وعدم الخوف والأحقية بالمكان. ونستلهم الرمزية المعنوية الجبارة في توصيل الإمدادات للمناضلين، فالنساء يخبزن ويجهزن الطعام، و الصبية يحملون الخبز والطعام متحدين وحشية المستعمر لتوصيلها إلى المناضلين من الرجال والنساء والشباب في الجبال ؛ فههنا تتحقق رمزية الإرادة المشتركة.إن حامينة، ما فتئ يستعرض صورا من صور الشراكة الحياتية ولا أقول الاجتماعية؛ فالمرأة شريك فاعل في النضال والكفاح وإنجاح الثورة، وفي الثورة الجزائرية، تخطى دور المرأة الاجتماعي الأسري وأخذ أبعادا ليصل إلى الجهاد المسلح والكفاح والنضال. لقد شكلت المرأة الجزائرية خط إمداد مساند في التجهيز والتطبيب والتمريض والعناية بالمناضلين لمواصلة الكفاح المسلح ضد الاستعمار. ولم يغفل المخرج حامينة، دور الصبية الذين لعبوا دورا بطوليا لا يقل شجاعة عن دور المقاتلين في الجبل. وينتقل بنا المخرج الجزائري محمد لخضر، إلى صورة فنية نابضة بالحياة متفائلة بالمستقبل، وذلك عندما صور لنا الفلاحين وهم يحصدون السنابل. لاحظ معي كيف يتم تصوير الجبال من القمم الشاهقة بدقة وتأنٍ؛ ليلاحظ المشاهد كل ما فيها من صخور صلبة وطيور جارحة تطير بحرية، وأشجار خضراء، وشلالات ومنحدرات، ثم تدريجيا ينحدر بك التصوير بانسيابية لا مثيل لها من الروعة والجمال إلى السهول والوديان وبيوت الفلاحين، مركزا على صورة المزارعين وهم يحصدون السنابل؛ سنابل الخير والبركة. صورة فنية رائعة نابضة بالحياة، متفائلة بالمستقبل. وفي الوقت نفسه يصور لك القصف المدفعي، والغارات الجوية لطيران المستعمر لإسقاط قناعه وكشف زيفه؛ فإذا كان المستعمر الذي يدعي أن «مصطلح الاستعمار» من «الأعمار»؛ وهو في الحقيقة يهدم البيوت على رؤوس أصحابها بين الفينة والأخرى بالقصف العشوائي بطيرانه الحربي وترويع الفلاحين، ويخنق حناجر المفكرين بزجهم في السجون وتعذيبهم حتى الموت، ويمزق الأسر، ويفتك بالأعراف والتقاليد، ويخنق تلك السنابل الخضراء، ويلوث جمال الطبيعة.هذا التداخل بالصور؛ صور الخير وصور الشر، حتى وإن تشابكا؛ فإن المخرج قادر على فكِّهما بطريقة فنية رائعة من خلال ما يحملان من إسقاطات تنير الطريق للمشاهد لمعرفة نهاية أحداث الفيلم.  إن هذه الغطرسة الاستعمارية التي روّعت أهل القرية لم تسلم منها البهائم أيضا؛ فها هو والد لخضر، كبير القرية يجري بكل ما أوتي من قوة لإنقاذ ماعز صغيرة لا حول لها ولا قوة وإذا بشظايا قنابل المستعمر تمزق جسده وترديه شهيدا «الله أكبر... الله أكبر» مات رمز القرية وعاقلها، وخيم الحزن والألم على زوجته وابنه لخضر وأهل القرية قاطبة، ولكن الجزائر لم ولن تموت فهي في قلب كل جزائري وكل عربي، لقد أدخل المخرج صورة رمزية ثالثة تتعانق مع صورة الجبال واستشهاد كبير القرية، وهذه الصورة هي صناعة الزرابي - السجاد ؛ فالأرض جزائرية، وبناء الأكواخ من الطين والقش؛ فالأرض جزائرية، وحصد السنابل؛ فالأرض جزائرية، الأذان يصدع في أرجاء الجزائر؛ فالأرض جزائرية، الوضوء للصلاة؛ فالأرض جزائرية، الصلاة جماعة في الفضاء الطلق؛ فالأرض جزائرية...عذرا يا جـزائرُ يا أرضَ العظماءْعذرا يا جزائر يا موطنَ الشرفاءْعذرا لآهاتِ المناضلين عذرا لكلِّ قطرةٍ من دم الشهداءْ.* كاتب وباحث لغوي كويتيfahd61rashed@hotmail.com