هل لنا أن نضع تعريفا محددا للرقابة، يبتعد قدر المستطاع عن معاني اللغة والمصطلح، والقوالب التي عاث فيها المنظرون تحليلا وتفسيرا، بالتهويل تارة وبالتهوين تارة أخرى... تعريفا يمكن أن يكون أرضا صالحة للمضي قدما نحو فهم حقيقي وواضح للمدلول الذي يشير إليه المعنى؟!هل لنا أن نكون أكثر إيجابية وتفاعلا مع أنفسا من خلال المصارحة والمواجهة بالحقيقة التي نحاول بكل ما تسمح به قدراتنا إخفاءها، وإظهار بدلا منا الزيف والخداع والمراوغة؟!بسيطة هي الرقابة في تعريفها الشامل، قل إنها الوصاية على ما يحتاجه المجتمع من معرفة، قل إنها... تفكير عدد قليل من الذين نطلق عليه «لجنة» نيابة عن الكثير الذي نطلق عليه عموم المجتمع، أو إن أردت فقل إنها الفهم الغامض الذي يدّعيه أعضاء «اللجنة»، وخوفهم الزائد عن حده على العادات والتقاليد، ودفاعهم المستميت عن المفاهيم، التي يرون أنها تتعرض لهجوم مباغت من قبل كُتاب، ومؤلفين وأدباء ومفكرين، وأن الدور الذي كلفوا به هو أن يكونوا على قدر المسؤولية، ويدحرون كل هذه المؤامرات، بمعاول المنع، تهديما أو تقطيعا أو منعا، أو حجبا، وصولا إلى الترهيب.ليس مهما أن نعرّف الرقابة، أو نلهي أذهاننا بوضع تعريف محدد لها، أو الاقتناع بكل ما أوتي من تعريفات جاهزة أو معلبة، أو مبتكرة أو مفصلّة حسب المقاس... مقاس أي شيء كان، وليس مفيداً أن نؤكد أن الرقابة فقدت مواقفها ومعانيها وأثرها، وحتى اسمها بمجرد أن سبحت المعلومات في فضاء لا بداية لها ولا نهاية، وأصبح نقل المعلومة والمعرفة، أيا كان أصلها أو زيفها، أو كذبها أو صدقها، أو سطحيتها أو عمقها... أسهل وأسرع مما كنا نحلم.نحن في مرحلة زمنية من تاريخنا العربي، لا نريد فيه أن نكون إلا ما نحن فيه، فلا يريد ما يطلق على نفسه التنويري إلا أن يكون كما يرى «تنويريا» ضيقا يدافع بشراسة عن رؤيته تجاه الأشياء والمعارف والحقائق، وليس باستطاعته على وجه الإطلاق أن يناقش شخصا أصوليا، له فكره الخاص الذي يتعارض معه، ويرى أنه على حق وغيره في ضلال.كما أن أصحاب الفكر الأصولي يتمسكون بتلابيب رؤيتهم، ولا يريدون بأي حال من الأحوال النظر إلى أي رؤية تخالفهم الرأي والطريق، وليس لديهم الاستعداد للمناقشة، أو تبادل وجهات النظر، إلا من خلال البحث والمضي عن أخطاء وسقطات الآخر ليتناولوها بالنقد والتجريح والتخوين.هذان الصنفان... هما اللذان يحركان المجتمع العربي، أو قل: هما اللذان يجذبانه بشدة تجاه الهاوية، فلا يريدان أن يتفرغ لأحلامه وتطلعاته، والمضي نحو المستقبل، إنهما يدفعانه دفعا كي يظل ضالا في مسألة الإمساك بالحقيقة، والتسامح مع الآخر، والتفكير في بيئة هادئة لا يلوثها التشتت والفرقة والعصبية والتعتيم المتعمد من طرف تجاه الطرف الآخر.مواقفنا تجاه الرقابة لا ترقى إلى مستوى المعالجة الفعلية لمصدر المرض، بقدر ما هو صراع محتدم بين فئتين، كل منهما يريد لوجهه أن يكون أكثر وضوحا وتأثيرا، وأكثر إقناعا، فيما يظل المرض متوغلا في جسد الثقافة العربية، لا يبرحه، مهما قدمت الحلول واتخذت الإجراءات.فالرقابة لم تكن أبدا في مجتمعاتنا مقتصرة على الكتب، ولم تكن محشورة في زاوية واحدة اسمها الفكر، إنها عامة تشمل كل مناحي حياتنا، فالذين يطلقون على أنفسهم تنويريين أو أولئك الذي يدعون المحافظة على الأصول، أو حتى الذين يقفون بينهما من دون أن تتضح لهم رؤية أو رأي، يمارسون مهمات الرقابة بكل قوانينها ونصوصها، ولكن بطرق تختلف حسب المزاج أو القدرة على التأثير.نحن نطبق الرقابة على غيرنا فننتقد تصرفاته من دون داع مهما بلغ بنا التفكير، ننتقده لأنه يفعل ما لا يتطابق مع قناعاتنا، من يطلقون اللحى سيجدون من يراقبهم، ومن لا يطلقونها سيجدون من يراقبهم، إننا نراقب بعضنا البعض في الشوارع والأماكن العامة، ولا نصمت عن أي مخالف لصفاتنا وقناعاتنا، لا نقول إن كل شخص له حريته، طالما أنه لم يتعرض للآخرين بالأذى، فكيف نطالب الرقابة بأشياء نحن لا نفعلها في حياتنا اليومية؟كيف نطالبهم بالكف عن منع الكتب لمجرد الاشتباه في عنوان أو سطر، أو مخالفة تفهم خطأ، ونحن نمارس الرقابة في كل ما تقع عليه أعيننا؟«الرقابة» في مجتمعاتنا العربية، تضم لجنة من الموظفين، ينتمون – حسب ما تقول اللائحة – إلى الثقافة والفكر والفن والمعرفة، وهم يمارسون أدوارهم حسب ما تتطلبه الأحوال السائدة، وحسب ما يتحسسونه من مواقف غير واضحة لهم في الأساس، وهم لا يحملون خارطة محددة للكتب التي يجب عليهم منعها والأخرى التي يتعين إفساحها أو إباحة قراءتها، وفي المقابل هم يرسمون خارطة خاصة مستوحاة من السائد والعام، واعتمادا على مبدأ الغالب والمغلوب، فالرؤية الغالبة هي التي يسيرون في موكبها، ويمنعون ويبيحون على أساسها، وهذا الأمر متغير وغير ثابت.ومن هنا نجد التضارب بين رأي اللجنة الواحدة خلال فترة زمنية قد تطول أو تقصر، فقد يبيحون كتابا ثم يعودون لمنعه بعد أشهر عدة، لأنهم ببساطة متحسسون من الموفق الغالب الذي تغيّر، ويريدون ممارسة أدوارهم، التي توظّفوا من أجلها، وقد يكون تصرفهم فيه بعض التعسف، ولكنه قد يبدو لهم أنه أرحم من إباحة ما قد يدخلهم في معمعة المسؤولية والاتهام بارتكاب الخطأ – حسب رأي الآخر الغالب.الرقابة في زمننا العربي الجديد... تعني أن ننتصر لأهدافنا وتطلعاتنا وقناعاتنا من دون الالتفات إلى الآخر، أن نتحسس من رأي مخالف من دون البحث عن التوافق أو الالتقاء، أن نكون غير متسامحين أبدا مع أي فكرة تخرج من أذهان غير مقربة منا، أن ننتصر لمجرد الانتصار، وننحاز لمجرد الانحياز، ألّا نهادن مهما كلفنا الصراع أعمارا وجهودا.إننا ننظم الفعاليات المنددة بالرقابة في شكلها الحالي، ولا ننظم الفعاليات التي تنادي بقبول الآخر، ولو ادعينا أننا نقبل الآخر فليفتش كل منا في نفسه سيجد أنه يحمل مسخا لا يقبل إلا فكرته وفكرة من يساندونه الرأي، وأنه يرفض رفضا قاطعا دون ذلك.فمتى تمكنا من الاستماع إلى رأي يخالفنا بآذان صاغية، وتحاورنا معه بروية ويسر... عندها سيكون المجتمع أكثر حرية، ولن يكون لـ«الرقابة» معناها.
محليات - ثقافة
قضية / كلنا نمارسها ونعزف على أوتارها
«الرقابة» مِحْنة صنعها التوجس ... وأكّدها رفض الاختلاف
04:23 م