... سلامة أخي خليل المجند علقت الآمال على وصول الأخوين ناجي وعماد.عاد ذئب الخوف ينهش استقرارنا، ويعكر صفوة أيامنا، وقلق المستقبل نذير شؤم يعتم أفقنا، ومازلت أقف أمام باب المنزل أترقب المجهول... لمسني أخي خليل قائلا: أعلم أنها معشوقتك.. أعرف حبك للكويت.. ولكنه قدر ونحن مطالبون بالإيمان به.هل شاهدت العراقيين بعينك؟ بل قل البعثيين، فالعراق أشرف من أن يقوم بمثل هذه النذالة، وأطهر من أن يقدم على مثل هذه الخيانة والفعلة الجبانة.نعم يا أخي... لقد بعثوا لقائدنا مرسالا على حافلة مدنية (باص ركاب) يا للعار! من شدة جبنهم غزونا (بباصات) مدنية يا أخي؛ فالسارق مهما حمل من سلاح إلا أنه يخاف الصوت والضوء، وا أسفاه على هذا البلد الشامخ الذي ارتضى على نفسه أن يطعن الرجال من الخلف... تقدم الضابط البعثي وهو مدجج بالسلاح مع ثلاثة من العساكر البعثيين إلى قائد لواء المجندين، وقال له بالحرف الواحد عليك أن تسلم المعسكر بعد ساعة واحدة...ولكن قائدنا رفض تسليم المعسكر، وفشلت كل الاتصالات مع وزارة الدفاع... أمر القائد بتوزيع المجندين على أبراج الحراسة، وكان يبث فينا الحماسة والاستبسال للذود عن الكويت والدفاع عن كرامتنا، وكنا فعلا متحمسين وفرحين بالسلاح الذي وزع علينا، وكانت فرحتنا أكبر عندما أعطينا أمرا بإطلاق النار على العدو... ومضت ساعة ولم يأت أحد من الغزاة... ومضت ساعة أخرى ولم نتبيّن أحدا من الغزاة البعثيين... فتوالت الساعات حتى خيم الظلام على معسكرنا، هَـفـَتَ الحماس بداخلنا شيئا فشيئا، وعيل عزمنا... أصابني الملل في الخارج، فدخلت أباشر عملي بحكم أنني مدير مكتب القائد، فوجدته يحاول عبثا الاتصال وبانت عليه علامات اليأس... فخرج وخيّر العساكر قائلا: «من أراد منكم الذهاب إلى بيته فليذهب، لكم حرية الخيار، ولم ينتظر إجابة أحد، بيد أنه فهم بأن الكل يريد أن يواجه العدو، فلما دخل إلى مكتبه قال لي:» اذهب إلى بيتك لكي ترى زوجتك وأولادك. فرفضت بشدة، وقاطعته قائلا: أنا لست بأقل شجاعة عمن في الخارج، وأنا مكلف بحمايتك شخصيا. قال: الحافظ والحامي هو الله، يحفظنا ويحمي بلدنا... وأثناء هذا الحوار سمعنا طلقات الرصاص وأول قذيفة لمدفع فرّقت بيني وبين القائد... أين هو لا أجده... صوت الرصاص يزداد والمدفعية تواصل القصف، كنت أسير داخل المعسكر لا أرى شيئا... قطعت الكهرباء... ولكنني أحفظ أماكن الخروج، تقدمت ببطء أتلمس وأتحسس الأشياء، ماذا أقول لك يا أخي: لحظات بطيئة... تمر برتابة... تتسلل بداخلي... تخنق نبض الحياة... تزدري الأمل... تقاتل الشجن... مميتة هي... سوداء كالحة... ظلماء حالكة... صوت بين جنباتي مخيف... دوي عاصف... بريق أمل تعاوده المحن... إشراقة ممهدة... مقتولة ومقيدة... هناك الطريق يساورني الشك في الوصول إليه... آه... إنه بعيد... بعيد جدا... دبيب النمل حولي... حشرجة في صراخي لا تعدو بوابة أسناني... خمول جلدي يذبل عيني... طائر يرفرف... هناك الطريق... أرمقه بعيني... سراب هو... حقيقة أنا... يكفي أن تكون حقيقة... ينقلب السراب إلى واقع... إرادة متريثة... عزيمة سارحة... وصلت ... لا... ليس بعد... هناك عقبات... مخاطر ملتوية... سكنات غدر... هدوء المباغتة ... ظلام يتمزق... لحظات تتطاير... نبض ينتعش... أمل يتجدد... وصلت يا أخي... ها هو الطريق... هدأ صوت الرصاص، عدا طلقات متباعدة هنا وهناك.. وقف القصف المدفعي... وصلت يا أخي إلى سيارتي بعد أن تسلقت عدة أسلاك واجتزت عدة حواجز، نزعت ملابسي العسكرية ولطختها بدمي وبتراب الكويت، ووضعتها بالقرب من سور المعسكر، نظرت في كل الاتجاهات فلم أشعر بأحد، وبعد التأكد سرت في سيارتي ولم أشعل الأنوار كما أني لم أسلك الطريق الصحيح؛ بل توجهت إلى الطريق البري في عمق الصحراء.«لا تسل كيف كانوا وكنالم يعد للكلام والشرح معنىاحرق المعجم القديم وقليكيف صار الغريب أوفى وأحنىإن رمحا نعده للرزاياصار في نحرنا جروحا وطعناحين هانت على الغريب دماناقد وجدنا البعيد أوفى وأدنىرقص الأقربون فوق جروحيحين غنى الغراب للموت لحناوانجلى الفجر عند عدو صريحومداج لموتنا يتمنىاحرق المعجم القديم وقل ليسوف نأتي ولا تقل لي كنا» (شعر عبد الله العتيبي شاعر الوطن والوطنية). * كاتب وباحث لغوي كويتيfahd61rashed@hotmail.com* المصدر: رواية ( الكويت في قلب شاعر – 2 /8 /1990حتى 26/2/1991 )
محليات - ثقافة
مثقفون بلا حدود
الكويت في قلب شاعر (5)
11:18 ص