حسنا فعل انابوليس في تذويب الثلج ما امكن بين اعداء تاريخيين واصدقاء ملتبسين، فالمؤتمر في حد ذاته خطوة الى الامام لتجديد الامل في امكانية حصول سلام دائم وعادل في المنطقة... تجديد الامل وليس بالضرورة تحقيقه لان التجارب علمتنا ان ارادة الافرقاء المعلنة احيانا غير الارادة الحقيقية وان ما يقرره افرقاء الاجتماع يبطل تنفيذه افرقاء من خارج الاجتماع.
ومع ذلك، حسنا فعل انابوليس، سواء رأينا دولة فلسطينية مستقلة قبل نهاية العام 2008 او لم نر، وسواء حصل السلام الشامل مقابل التطبيع الكامل ام لم يحصل، وسواء هدأت الامور على الارض ام جنحت للعنف... ولكن، لا بد من التوقف قليلا كعرب عند فكرة المناسبة بحد ذاتها، اي «التقريب بين اعداء متصارعين» من اجل الاستفادة منها في التقريب بين «اشقاء متباعدين»، فما لم يتفق العرب ولو بالحدود الدنيا على موقف موحد فلن تسلم اي تسوية من الانهيار لاحقا.
قبل انابوليس، حصلت محاولات كثيرة للتسوية في المنطقة، فردية وجماعية. بعضها كان يتوقف في محطة الاغتيالات الشخصية للزعماء وبعضها الآخر في محطات اغتيال الاوطان، ودائما كان الطرف العربي هو الذي يعطي المبرر للآخرين بالاختراق والتسلل مستفيدين من صفوف مبعثرة وكلمة مشتتة.
ماذا سيفعل انابوليس لو ان طرفا فلسطينيا قويا حاكما على الارض رفض كل القرارات والاتفاقات؟ ببساطة وبكل مباشرة وموضوعية نقول ان حربا اهلية طاحنة قد تندلع بين رفاق الصف الواحد من اجل حسم الامور بالدم والتفرد بالتسوية. وما ينطبق على السلطة الفلسطينية ينطبق ايضا على «حماس» التي رفعت ايضا من ضمن ما رفعت من شعارات انها الطرف الذي يمكنه حماية اي اتفاق... من دون ان ننسى حجم المشاركات العربية والايرانية التي يمكن ان تحضر في حرب كهذه.
وماذا سيفعل انابوليس لو ان ايران ذهبت بعيدا في معارضة نتائجه ووسعت نطاق التحالف مع حلفائها في العراق وسورية و«حزب الله» و«حماس»، وصولا الى تطورات ميدانية تعيد المفاوضات الى نقطة الصفر... او ما تحت الصفر؟
وماذا سيفعل انابوليس لو ان المتطرفين الاسرائيليين كرروا ما فعلوه في تسعينات القرن الماضي حين اطلق احدهم النار على اسحق رابين رئيس الوزراء الذي قضى نتيجة «ودائعه»، او اطلقت مجموعات بأكملها النار على عملية السلام من خلال اختيارها لشخص مثل بنيامين نتانياهو ليكون رئيسا للوزراء؟
والاهم من ذلك كله، ماذا سيفعل انابوليس والراعي الدولي له موضع شبهة على مستوى العالم بأسره، فالفشل رديف تحركاته، والخطأ عنوان مبادراته، والعدل مشطوب من قاموسه. راع اعتبر دعم «الجهاد» قبل 25 عاما في افغانستان مدخلا الى الحرية، ثم اعتبر دعم «الجهاد» في فلسطين مدخلا الى الارهاب، ثم خلط بين المقاومة والارهاب واعتبر الحرب على كل مقاوم في الكرة الارضية مدخلا لعالم آمن، ثم اعتبر تغيير الانظمة مدخلا الى الديموقراطية، ثم عاد ليعتبر دعم الانظمة نفسها مدخلا الى الاستقرار بعدما اوصلت صناديق الاقتراع الى السلطة من جهد لمحاربتهم... وها هو اليوم يرعى اكبر عملية سلمية في العالم لا في المنطقة فحسب وهو الساقط في امتحان رعاية عملية سلمية بين افرقاء عراقيين، من دون ان نغفل جانبا «ايجابيا» ساهم في ايجاده، وهو التلاقي بين تيارات اسلامية سنية وشيعية لم تكن لتتلاقى من قبل، كما حصل في الكويت تحديدا قبل ايام حين تشاركت الحركة الدستورية والتحالف الوطني الاسلامي في حرق الاعلام الاسرائيلية احتجاجا على انابوليس.
لا بد من انابوليس عربي كي ينجح انابوليس الاميركي، اذ لا يمكن تخيل علاقة تفاعلية في الحلول بين عرب واسرائيليين فيما نصف المسؤولين العرب الذين حضروا المؤتمر لا يتحدثون مع النصف العربي الآخر، بل ان بعضهم عقد جلسات سرية مطولة مع مسؤولين اسرائيليين فيما رفض ان يصافح «شقيقا». المهم ان الاجماع العربي في هذه المناسبة ليس شعارا من الشعارات القومية والوطنية التي ترفعها احزاب وجماهير، انما هو ضرورة ومصلحة لهم ولعملية السلام التي يستحيل ان ينطلق قطارها بوقود اسرائيلي واميركي فحسب بل لابد من ارادة عربية واحدة في الاتفاق او الاعتراض... والا فالثمن سيكون تحطم القطار بالعرب والفلسطينيين بعدما يكون الاسرائيليون والاميركيون اول القافزين منه.
جاسم بودي