رغم أننا ندخل في مجتمعاتنا العربية إلى أجواء ثقافية تختلف تماماً عما كانت عليه الحال قبل موجة التغيرات السياسية في المنطقة إلّا أن لدينا نزعة عنيدة لما كنا قد سمعناه من أهلنا ونحن ما زلنا في بطون أمهاتنا، وما زالت تلك الصور التي فتحنا أعيننا عليها ونحن صغار ما زالت ترقص في أذهاننا رغم جلوسنا على مقاعد التعليم، إنه الموروث الذي نُصرُّ أن ندفع إليه أبناءَنا لنبرر لأنفسنا سلامة الطريق التي قطعنا أكثرها! الوقوف على الحقيقية يجب أن يكون كافياً أن نعترف بمضمونها ويكون في ذات الوقت حافزاً يُحَوِّلُ مسارنا تجاه الصواب دون التهيّب من سطوة الموروث والخوف من سَدَنَتِهِ، ولو وضعنا أكفّنا على أعيننا لنمنع ألوان الحقيقة من الوصول إلينا فإن الحقيقة ستبقى حقيقة، ونحن سنبقى بعيدين عنها. إن الحالة الاقتصادية للمجتمع تعكس قطعاً الحالة السياسية فيه، ألم يخبرنا الماوردي في كتابه السياسة الشرعية أنك «تستدل على سياسة الحاكم من وجه الرغيف في السوق»، لطالما كان الاقتصاد مرآةً للسياسة، وكان العدل وكانت المساواة أساساً في تمكين المُلك وأداةً من أدوات العز والمنعة للوطن والمجتمع، وخلاف ذلك يؤدي إلى غير ذلك. إن أهم ما يلزمنا اليوم في فهم النص القرآني هو فهم واقعنا أولاً قبل الشروع في البحث عن معاني مفردات النص وسبب النزول والسياق اللغوي مع ضرورة ذلك كله، ولأننا نؤمن أن هذا التنزيل الإلهي صالح لكل زمان ومكان فإذاً يلزم فهمنا لهذا النص الإلهي أن نعرف أولاً حيثيّات الزمان وطبيعة المكان الذيْن نعيش فيهما ليكون فهمنا للنص ملائماً لنا، لأن هذا النص الإلهي فيه ما لاءَمَ المجتمعَ الأول للمسلمين لأنهم فهموا واقعهم حسب زمانهم ومكانهم، وحين نفهم نحن واقعنا بدقة ووعي وموضوعية سوف يُلائمنا ما يصلح لنا من النص الإلهي وليس ما نفهم بشكل مجرّد من النص، إن هذا النص الإلهي نص مُحكَم مُعجِزٌ خالد لأنه كلام الرب من الأزل ماضٍ سرمداً في ملكوته، لذا حين نرى جانباً من التخبط أو التأخر أو الخلل في تطبيقات وممارسات المسلمين اليوم فإن السبب يكمن في عدم فهمنا للواقع الذي نعيشه، ناهيك عن خلل فادح في فهمنا لمفردات لغتنا العربية فاجتمعت عدة أسباب أخذت فهمَنا إلى ممارسات نَحَتْ بنا عن وسطية الفكر وشذّتْ بنا عن سماحة السلوك، فنتج عن ذلك تسيّب في ممارساتنا من جانب وتطرّف من جانب آخر، إن هذا القرآن أشبه بعلاج ناجع لمن أقبل عليه وهو عارف بواقعه مُشَخِّصٌ للداء الذي يشكو منه يكون بذلك القرآن شفاء له، وعكس ذلك نافذ حين يكون الإنسان ظالماً لنفسه جاهلاً بحقيقة واقعه لا يزيده القرآنُ إلاّ خسارة؛ ففي سورة الإسراء «ونُنَزِّلُ مِنَ القرآنِ ما هو شِفاءٌ ورحمةٌ للمؤمنينَ ولا يَزيدُ الظالمينَ إلا خَساراً». إذن هذا النص الإلهي يأخذ المُقبلَ عليه إلى حالين؛ الحال الأولى هي حال المدرك لواقعه الواضح مع نفسه فيكون النص القرآني هدىً له وصلاحاً لسلوكه، أما المقبل عليه بجهل وتطرف وتعنت من غير فهم للواقع فلن يجني إلا خسارة فوق خسارته. إن المُضِيَّ في وضعِ مُسلَّماتٍ للأفكار والنظريات لتصبح أشبه بمعتقدات يُلامُ الباحث إليها، ويُدانُ المُناقش فيها، أمر أخذ مجتمعاتنا والمثقفين فيها إلى حالٍ من الركود العلمي والتراجع في إرادة الفهم وطرق البحث فضلاً عن سطحية يظن أهلها أنهم متمرسون وهم ما زالوا على شواطئ العلم، فضلاً عن أن هذا النسق من الركود والتهيب من البحث في مفاهيم موروثة أتاح مجالاً أمام فئة من الناس كان ذلك ذريعة لها للبعد عن الدين، وأعطى مجالاً لتغذية بيئات أنتجت الفكر المتطرف وأفسحت الطريق أمام من يستغل ذلك كله للعبث بين تلك المسافات. علينا أن نكون أكثر حرية نحو إرادة الفهم غير مقيّدين في دائرة النص من أجل النص بل علينا أن ننظر حولنا وفي موضع أقدامنا حتى نرى بوضوح واقعنا ثم ننظر في النصوص. وليس العكس، تماماً كما كان الناس لفترة ليست قصيرة يتعاملون مع الإسفنج ويجلسون عليه وينامون عليه ويعتقدون أنه نبات بينما هو حيوان.  * كاتب وشاعر سوري