اذا كانت الانتخابات اللبنانية أثبتت شيئاً، فهي اثبتت ان ليس في الإمكان إلغاء سعد الحريري والاتيان بزعيم آخر للسنّة. لا يمكن اختراع زعيم سياسي لبناني من لا شيء حتّى لو لجأ «حزب الله» الى كلّ الوسائل العبثية والبعثية وغير البعثية المستوردة من النظامين الايراني والسوري اللذين توجد أوجه شبه كثيرة بينهما. في مقدم هذه الاوجه الاعتقاد انّه يمكن إلغاء شعب وتحويله الى قطيع والانتخاب باسمه الى ما لا نهاية.كان القانون الانتخابي الذي أجريت على أساسه الانتخابات الاخيرة، غير عادل. كشف اوّل ما كشف انّ هناك آلة حزبية قادرة على فرض إرادتها على طائفة بكاملها ومنع أفرادها من ممارسة حقّهم الديموقراطي. هذا ما شهدت عليه ممارسات كثيرة إن في بعلبك - الهرمل أو في دوائر الجنوب. يظلّ ما تعرّض له الزميل المرشّح السيّد علي حسن الأمين في قريته شقرا خير دليل على ذلك.على الرغم من كلّ الحروب التي شنّت على الحريري، خرج الرجل منتصرا. لو تعرّض سياسي آخر لنصف ما تعرّض له زعيم «تيّار المستقبل»، لكان فضّل التراجع والاستسلام. تكمن اهمّية الحريري في انّه يرفض الاستسلام. من الواضح ان لديه ايمانا عميقا باللبنانيين ترافقه قدرة على فهم ما الذي يريدونه، حتّى حين يوجهون انتقادات الى «تيّار المستقبل» ويعددون مآخذهم عليه. لا يزال الحريري يجسّد الامل الذي يتمسّك به اللبنانيون الشرفاء الذين يعرفون ان كلّ خطوة اقدم عليها الرجل كانت من اجل لبنان. لا يشبه سعد الحريري غير رفيق الحريري الذي يقول عنه نهاد المشنوق منذ آواخر ثمانينات القرن الماضي انّه «مهووس بلبنان». يظلّ الحريري، في نهاية المطاف، احد السياسيين القلائل الذين دخلوا هذا الميدان اغنياء ولم يسألوا يوما عن التضحيات التي وجدوا انّ من الضروري تقديمها من اجل ان يكون البلد في وضع افضل.كان الحريري على حقّ عندما تحدّث بلغة المنتصر، وانّما بتواضع وواقعية، في اليوم التالي للانتخابات. تؤكّد الأرقام انّ «تيّار المستقبل» لم يخض أيّ معركة انتخابية في أيّ دائرة من الدوائر الّا وخرج منها رابحا. كانت المشكلة في القانون الانتخابي العجيب الغريب الذي صيغ بهدف واحد هو استهداف الحريري وجعله يخسر نوّابا. تبيّن، بعد الانتخابات انّ الحريري استطاع البقاء على رأس كتلة تضم 21 نائباً. تبيّن ان طرابلس لا تزال طرابلس وعكار لا تزال عكّار، كذلك الضنّية. لا تزال بيروت تقاوم. لا يزال الحريري عصب المقاومة البيروتية عن عروبة لبنان. لذلك نجده مستهدفا ونجد كلّ ذلك التركيز على شخصه من قوى لا يجمع بينها شيء سوى الحقد. منذ متى يصلح الحقد على الحريري برنامجا انتخابيا تعتمده شخصيات سنّية تعمل في نهاية المطاف، من حيث تدري او لا تدري في خدمة «حزب الله» والذين يقفون وراءه في طهران. متى يصلح الحقد على سعد الحريري، وقبله على رفيق الحريري، دافعا للوصول الى قانون انتخابي «لا يقصي أحدا» على حد تعبير الأمين العام لـ«حزب الله» السيّد حسن نصرالله. نعم، لا يقصي هذا القانون أحدا الّا الاحرار من أبناء الطائفة الشيعية الذين يبدو ان كلّ الوسائل التي تؤدي الى استبعادهم عن مجلس النوّاب مشروعة! كانت الكلمة التي ألقاها الحريري في «بيت الوسط» يوم الاثنين في غاية الوضوح. أين خاض «تيار المستقبل» الانتخابات وخسر. لا تزال الناس مع الحريري. تعرف تماما انّ الاستقرار النسبي الذي ينعم به البلد يعود الفضل فيه للرجل الذي قبل «ربط النزاع» مع «حزب الله» من اجل تشكيل حكومة يتمثّل فيها الجميع. قبل ذلك ملء الفراغ الرئاسي فكان انتخاب ميشال عون رئيسا للجمهورية. لم يكن جائزا بقاء البلد من دون رئيس للجمهورية في حال كان مطلوبا ان تعمل مؤسسات الدولة. بعد الانتخابات ليس كما قبلها. هذا الكلام صحيح في حال وجد لدى من يقوله بعض المنطق والواقعية بعيدا عن لغة الانتصارات الفارغة من ايّ مضمون، اللهم إلّا اذا كان ادخال بعض يتامى النظام الأمني السوري - اللبناني، السعيد الذكر، الى مجلس النوّاب انجازا. سيكون السؤال، في مرحلة ما بعد الانتخابات، هل يمكن متابعة البناء على ما أسست له حكومة الحريري عبر ثلاثة مؤتمرات أظهرت ان هناك استعدادا عربيا ودوليا من اجل مساعدة لبنان. كان المؤتمر الاول في روما. خصص لدعم قوى الامن والجيش. كان المؤتمر الثاني وهو الاهمّ في باريس وحمل اسم «سيدر». حصل لبنان فيه على نحو 12 مليار دولار مساعدات وقروض ميسّرة. وكان المؤتمر الثالث في بروكسيل وكان مخصصا لدعم الدول التي تستضيف لاجئين سوريين. ما كان لأيّ من المؤتمرات الثلاثة ان ينعقد لولا الحريري وفريق العمل الذي يعاونه والذي اعدّ الملفّات الخاصة بكل مؤتمر اعدادا جيّدا. اقنعت الملفات، التي اعدها فريق العمل في رئاسة الحكومة وفي وزارة الداخلية (في ما يخص مؤتمر روما) المشاركين في المؤتمرات الثلاثة بأن دعم لبنان يصبّ في مصلحة الاستقرار الإقليمي.جاءت الانتخابات اللبنانية، قبل ستة ايّام من الانتخابات العراقية، في منطقة تتلبد فيها الغيوم وتهدّد بانفجار كبير بسبب المشروع التوسّعي الايراني الذي اخذ مداه في سورية خصوصا. تعمل ايران في سورية عبر الميليشيات المذهبية التابعة لها على تهجير أهلها من مدنهم وقراهم ومزارعهم. مرّة أخرى، لا يمكن فصل الانتخابات اللبنانية عن الاطار الإقليمي الذي جرت فيه. تضع مرحلة ما بعد الانتخابات لبنان امام تحديات عدة. في مقدّم هذه التحديات القدرة على متابعة سياسة تحمي البلد فعلا من تداعيات التوتر الذي يسود المنطقة في وقت لا يستبعد فيه ان تنسحب الإدارة الأميركية، بعد ايّام، من الاتفاق في شأن الملفّ النووي الايراني وفي وقت تعيش فيه ايران ازمة نظام فشل في تقديم أي حلول لما يعاني منه الايرانيون. لم تجد ايران مخرجا من ازمتها سوى متابعة حال الهروب الى خارج أراضيها، خصوصا الى هذا البلد العربي او ذاك. انّها حال هروب يعتبر لبنان من ضحاياها لا اكثر. هل من وعي لخطورة ما يدور في لبنان وحوله؟ هذا ما ستكشفه الايّام المقبلة في بلد تبيّن فيه، نتيجة الانتخابات، ان لا احد يستطيع إلغاء الحريري، كما انّ لا احد غيره يمتلك أي مشروع جدّي للمستقبل. مشروع مبنيّ على «اليد الممدودة للجميع» على حد تعبير رئيس مجلس الوزراء نفسه. نعم اليد ممدودة ولكن ليس بأيّ ثمن.