علاقة المواطن المدني بالمؤسسة العسكرية الوطنية هي واحدة من معايير أخرى تصلح لتحديد تقدم أو تخلف الدول. ففي المنظومة القمعية -التي انتشرت كالمرض في عالمنا العربي خلال النصف الثاني من القرن الماضي- يشكل العسكر طبقة من «النيو برجوازية» التي تؤمّن الحماية والشرعية، ولو عن طريق القمع، للنظام الحاكم ورأسه الذي يكون بمجمله إما عسكرياً سابقاً أو دمية بيد العسكر. في المقابل لا تمنح الأنظمة الليبرالية أي مكانة قانونية أو سياسية للعسكر غير تلك الممنوحة لهم كموظفين عامين يعرضون حياتهم للخطر دفاعاً عن أمن وسيادة مجتمهعم. ففي الولايات المتحدة حيث للبدلة العسكرية احترام وتقدير، يتوجه المواطن العادي للجنود بعبارة «شكراً لخدمتكم» (Thank You for Your Service)، أو إعطائهم مثلا حق الأفضلية في الصعود إلى الطائرة إذا كان الجندي يسافر بلباسه الرسمي وخلال خدمته الفعلية. أما في ما يتجاوز ذلك، فلا فضل لعسكري على مدني إلا بالمواطنة، حيث يتساوى الجميع نظرياً أمام الدستور والقانون ويمنع العسكر من استعمال وظيفتهم ضد الآخرين. أما في لبنان، فنرى أن النظام السياسي، ورغم ابتعاده عن القمع العسكري السائد في دول الجوار، لا يزال يعطي المؤسسة العسكرية سلطة قانونية تسمح للأخير بسَوق المدنيين للمثول أمام المحكمة العسكرية في أمور عدة، تراوح بين إشكال بسيط قد يجري بين جار وجاره العسكري على أفضلية المرور وأمور أكثر خطورة كالتجسس والإرهاب، مما يحوّل المحكمة العسكرية، وهي محكمة خاصة واستثنائية ذات صلاحية محددة تشمل العسكر فقط، إلى مسخ قانوني يخرق الدستور والقانون بمباركة الطبقة اللبنانية الحاكمة. حنين غدار، الصحافية اللبنانية والزميلة الزائرة في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، هي ضحية الثغرة القانونية المُتعمّدة، بعد أن أصدرت المحكمة العسكرية بحقها حكما «غيابياً» بالسجن ستة أشهر. وفق القضاء العسكري، خطيئة غدار تكمن في تصريح عرضي لها جاء رداً على سؤال خلال محاضرة في المعهد نفسه في مايو 2014، انتقدت فيه الجيش الذي «يميز بين إرهاب سني وإرهاب شيعي ويتسامح مع الأخير» والذي حسب المادة 157 من قانون القضاء العسكري يشكل «جرماً» لجهة المس بسمعة الجيش. تطرح قضية غدار وقضايا أخرى لمدنيين حوكموا سابقاً أمام القضاء العسكري إشكالية قانونية وفلسفية واضحة ترتكز على تعسف القضاء العسكري وتحديداً تجاوز المحكمة العسكرية لصلاحياتها، حيث تناقض في العديد من إجراءاتها القضائية العسكرية معاهدة العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية - وهي معاهدة أممية ممهورة بتوقيع لبنان- ولاسيما حق الفرد في «العدالة الإجرائية في القانون في شكل حقوق إجراءات التقاضي السليمة ومحاكمة عادلة ونزيهة وافتراض البراءة والاعتراف به كشخص أمام القانون». لكن الصديقة العزيزة والزميلة السابقة غدار لن تمثل أمام المحكمة العسكرية في آخر المطاف لتطاولها على معنويات وسمعة جيشنا اللبناني الباسل، بل هي في قفص الاتهام كونها امرأة شيعية ليبرالية تجرأت وساوت بين الإرهاب السني والإرهاب الشيعي أي «حزب الله». وبما أن محاكم «حزب الله» الشرعية ومنظومة الولي الفقيه لا تحوي على مواد قانونية تمنع المس بسمعة «المقاومة»، ارتأى بعض الغيارى على سمعة الجيش وضع غدار في مواجهة المؤسسة العسكرية والتترّس بمشروعه المذهبي خلف هيبة الجيش العابر للطوائف والحسابات الطائفية الضيقة. ومن سخرية القدر أن هذه «المقاومة» نفسها، النائية بنفسها والمنتشرة في أرجاء الكرة الأرضية، في سورية والعراق والبحرين واليمن، حرمت الجيش اللبناني من نصره في المعركة ضد «داعش» في الصيف المنصرم. بل انها قامت بتأمين الحافلات لمقاتلي «داعش» للانسحاب من لبنان عبر سورية، بمواكبة المقاومين الشجعان، ولو على حساب دماء شهداء الجيش الذين نُحروا من قبل ركاب هذه الحافلات. موضوع حنين ليس بتفصيل عابر ولا جملة عشوائية من صحافية مخضرمة في معرض محاضرة، بل هو يمس جوهر حرية التعبير عن الرأي وحرية المعتقد والتي تشكل ركيزة دولة القانون والمؤسسات ومن ضمنها الجيش. جرم حنين بتعرية «المقاومة» ووصفها بالـ «إرهابية»، وتذكير الراضخين لقوى الأمر الواقع بأن احترام الدولة والسيادة عمل لا يتجزأ وغير انتقائي، على عكس نية وفعل «حزب الله» وإيران، هو الجوهر. ومن هنا الأجدى سَوق مستشار قائد الثورة الإسلامية للشؤون الدولية، رئيس هيئة مؤسسي «جامعة آزاد الإسلامية» علي أكبر ولايتي إلى القضاء اللبناني كون هذا الأخير اقترف جرماً يتعدى بأشواط مخالفة غدار. فولايتي قال في معرض تصريح له حول موافقة الرئيس السوري بشار الأسد على تأسيس فروع للجامعة في سورية «طرحنا خلال لقاء السيد حسن نصرالله الاستعداد لتحويل فرع هذه الجامعة في لبنان إلى فرع شامل، وسماحته أعلن استعداده لأخذ موافقة وزارة التعليم اللبنانية لاستكمال المشروع». وفي تصريحه هذا تطاول سافر على هيبة الدولة اللبنانية وتجاوز للأعراف التقليدية الديبلوماسية التي لا يغفل عنها شخص بمكانة مستشار للشؤون الدولية كولايتي. في حال شاء ولايتي التطبيع الثقافي مع لبنان فما عليه إلا أن يتواصل مع الدولة اللبنانية عبر السفير الإيراني وليس عبر السيد حسن نصرالله رئيس حزب «لبناني» متصل عضوياً مع إيران. سمعة وهيبة الجيش اللبناني الباسل هي جزء من هيبة الدولة، ومن هنا على الحكومة تحييد الجيش وقضائه العسكري عبر حصر الأخير بشؤون العسكريين أثناء الخدمة كما تقتضي العدالة والأعراف الدولية. دور الجيش المحوري في مكافحة الإرهاب، رغم أنف البعض، يتجاوز جرود البقاع وتفكيك الخلايا، وهو يبدأ وينتهي بحماية حق المواطن وحق حنين عبر رفض منطق ولايتي وكل أوجه جامعته التطبيعية الجامحة.
مقالات
عسكر عَ حنين
05:27 م